التعليم واللغات > اللغويات

هل يمكن لضربات إيقاعية على الطبل أن تشكل لغة مفهومة؟

بعد أربع سنوات من بدء (فرانك سيفارت) بتوثيق اللهجات المحلية المهددة بالانقراض في كولومبيا أتى رجال العصابات، ففي عام 2004 اجتاح جنودٌ من القوات الثورية المسلحة الكولومبية القريةَ الأمازونية حيث أجرى (فرانك) عملَه الميداني معظمه، فغادر عالمُ اللغة على مضض إلى قرية أخرى جنوب الحدود البيروفية. وعندما وصل إلى هناك، لم يكن زعيمُ القرية موجودًا بعد، وفي مبنى القرية المركزي، كان يوجد رجلٌ يضرب بإيقاع على طبلتين ضخمتين: "وصل شخص غريب. تعال إلى هنا"، وأتى الزعيم. كانت المرة الأولى التي يسمع فيها (فرانك) قرع الطبول التقليدية ليس فقط للموسيقا وإنما لإرسال رسالة.

نشر (فرانك) وزملاؤه أول دراسة معمقة للإجابة عن السؤال: كيف يفعل الطبالون ذلك؟ تتطابق الاختلافات الصغيرة في الوقت بين الضربات مع كيفية لفظ الكلمات في اللغة المتحدث بها، وتكشف النتائج التي نُشرت في Royal Society Open Science كيف تُشكل الجماعةُ المسماة (بورا) Bora الرسائلَ المعقدة الناتجة عن قرع الطبول، كذلك يمكن أن تُفسِّر النتائجُ كيف يفهم بقيتُنا ما يقولُه الأخرون في حفلات الكوكتيل الصاخبة بتحليل هذه الاختلافات الصغيرة في الوقت حتى عندما تكون الأصوات الأخرى مشوَّشة.

تقول (كاتارزينا فويتيلاك): "إنه أمر مبتكر تمامًا"، وهي عالمةٌ لغويةٌ وصفية وزميلة أبحاث ما بعد الدكتوراه في جامعة جيمس كوك في (كيرنز) في أستراليا، ودرست أنظمةَ اللغةِ والطبولِ لدى جماعة (ويتوتو)، وتضيف: "لم يُجرِ أيُّ شخص هذا التحليل الشامل والمفصل للإيقاع بلغة ناتجة عن قرع الطبول".

ما زال الناس منذ قرون في غابات إفريقيا الغربية وأسيا والأمازون يستخدمون الطبولَ لإرسال الرسائل إلى مسافات بعيدة، فقعقعة الآلات الموسيقية تستطيع السفر عشر مرات أبعد من الغناء أو الصراخ بسبب طبقتِها الصوتية المنخفضة وترددِها المرتفع، ولكن أكثر النماذج الناتجة عن قرع الطبول ليست إشاراتٍ بسيطةً أو تسلسلاتِ إشارة (مورس) وإنما هي نُسخٌ مُختزَلة من اللغة المنطوقة بدون أحرفٍ ساكنة وأخرى صوتية، ولكن مع اتصال كافٍ باللغة الأصلية التي يستطيع المتحدثون بها تفسيرَ ماذا يعنون على نحو موثوق، وبذلك المعنى يكون الخطابُ الناتج عن قرع الطبول مشابهًا للكلام تحت الماء أو عبر خط هاتفي سيئ.

ما الشيء الذي ينقل الرسالة؟ هناك إجابة واحدة ألا وهي النغمة. واحدٌ من 20 نظامًا من أنظمة الكلام الناتج عن قرع الطبول تأتي من اللغة المنغَّمة بما في ذلك (يوروبا) Yoruba في نيجيريا و(باندا-ليندا) Banda-Linda في جمهورية إفريقيا الوسطى و(تشِن) Chin في ميانمار، ولدى (بورا) نغمتان شُكِّلتا باستخدام طبلتين مختلفتين مصنوعتين من جذوع الاشجار المجوفة المسماة (مانغاريه) manguaré، وتُصدِر الطبلةُ الأنحف (الذكر) النغمةَ الأعلى والأثخنُ (الأنثى) النغمةَ المنخفضة.

لكن نغمةً واحدةً لن تكون كافيةً لتمييز الكلماتِ كلِّها التي يريد أن يقولها الطبال، لذلك درس (فرانك) وزملاؤه ما سماه "السمة المهمَلة في علم اللغة" أي الإيقاع، إذ بدأ الفريق بجمع تسجيلات عن لهجة (بورا) الناتجةِ عن قرع الطبول، ولم يكن ذلك سهلًا؛ منذ 100 سنة كان كل رجل يعرف تقريبًا كيف يستخدم الطبول، ولكن في الوقت الحاضر صارت هذه المهارات نادرةً ويُستخدم حاليًا في إقليم (بورا) نحو 20 طبلًا فقط من طبول (مانغاريه).

طلب (فرانك) من خمسة طبالين أن يعزفوا رسائلَ، بما فيها رسالة الاستيقاظ ورسالة العودة، وكما هو متوقع، تطابقت نغماتُ الرسائل الصادرة بواسطة الطبل -التي بلغ عددُها 169- مع النغمات العالية والمنخفضة المحكية في (بورا)، وظهرت الكلمات مرتبة على شكل صيغ، وكانت الأسماء والأفعال تتبعها دائمًا علامةٌ خاصة، وانتهت كل رسالة بسطر يقول: "الآن لا تقُل إنني كاذب"، يقول (فرانك) إنها مثل الأم التي تحذر طفلها: "لا تقل إنك لم تسمعني!".

يمكنكم مشاهدة نموذج من هذه الرسالة هنا

عندما قارن أعضاءُ الفريق قرعَ الطبول مع الكلمات التي وصفوها، وجدوا نمطًا ثانيًا: تغيَّرتَ أطوالُ المدد بين الضربات حسب الأصوات التي تتبع كل حرف صوتي، فإذا تألف الرمزُ الصوتي من حرفٍ صوتي واحد فقط كان الوقتُ بعد الضربة قصيرًا جدًا، لكن إذا كان ذلك الحرفُ الصوتي متبوعًا بحرف ساكن زاد الوقتُ بعد الضربة بمعدل 80 جزءًا من ألف من الثانية، وإذا كان هناك حرفان صوتيان متبوعان بحرف ساكن فإن ذلك يضيفُ 40 جزءًا من ألف من الثانية، أما عند وجود حرفٍ صوتي متبوعٍ بحرفين ساكنين فإن ذلك يضيفُ 30 جزءًا من ألف من الثانية.

تكفي هذه المدد القصيرة للتمييز بين الرسائل المنغمة بقرع الطبول كـ"اذهب إلى الصيد" و"أحضر الحطب" والتي تكون متطابقة في النغمة ولكن ليس في ترتيب الأحرف الساكنة والصوتية فيها، والذي يعني حسب الباحثين أن الإيقاع يؤدي دورًا تعبيريًا حاسمًا في اللغات المنغمة بقرع الطبول، ويضيف (فرانك) أنه إذا كان الأمرُ نفسه ينطبق على اللغات المنطوقة، فإن التأخيرات الصغيرة بعد تراكيبَ صوتيةٍ محددةٍ مثل التقاء الأحرف الساكنة دون وجود أحرف صوتية بينها يمكنُ أن تساعدنا على تمييز الكلمات في الأماكن الصاخبة.

عالم اللغة (بوب لاد) من جامعة أدنبره ليس واثقًا كثيرًا بأن النتائجَ ستحل ما يُشار إليه باسم "مشكلة حفلات الكوكتيل"، لكنه معجبٌ بكيفية إظهار عمل الباحثين لحساسيتِنا المذهلة في اكتشاف فروق الوقت بوضوح، ويقول (بوب) إن هذا الأمر يمكن أن يدفع بعض علماء اللغة إلى إعادة تعريف كيفية تحليل الإيقاع من خلال التركيز على تقسيمات غير منتظمة بدلًا من التركيز على تقسيمات منظمة معدودة.

يقول (أونور غونتوركون)، وهو عالم نفس في معهد علوم الأعصاب المعرفية في مدينة (بوخوم) الألمانية والذي درس كيف يعالِج الدماغُ لغة الصفير: "يُذهلني أن هذه الآلاف من أجزاء من الثانية هي من تقوم بهذا العمل كله"، وهو يرغب في أن يرى كيف يعالِجُ نصفا الدماغ اللغةَ الناتجةَ عن قرع الطبول وبالأخص فروقَ التوقيت. يقول (فرانك) إن هذا ليس مطروحًا للنقاش الأن، الأمرُ المطروحُ هو تجربةٌ خاضعةٌ للمراقبة يستمعُ من خلالها مستمعو (بورا) لرسائلَ منغمةٍ متطابقةٍ فيما بينها مع وجود اختلافاتٍ طفيفةٍ في التوقيت، إذ يعتقد (فرانك) أن أجزاءً معدودةً من الثانية قد تصنع الفرق.

المصدر: 

هنا