الطب > مقالات طبية

هل لتديُّن الآباء أثرٌ في انتحار الأبناء؟

في الملحمةِ السومريَّةِ الخالدة؛ وقفَ الملكُ (جلجامش) أمامَ موتِ صديقِه (أنكيدو) حائرًا مكلومًا، وبقي أيَّامًا طِوالًا دون طعامٍ أو شراب، لكنّه كَرِهَ فكرةَ الموت فسافر في طلب الخلود، وأدرك في النهاية أنَّ حقيقة الخلود كامنةٌ في إنجازه الإنسانيّ..

وفي المسرحية الإغريقية؛ حينَ أدرك (أوديب) ما اقترفت يداه -غيرَ عامدٍ- بقتله أبيه وزواجه من أمه التي انتحرت فورًا؛ لم يتقبَّل كلَّ هذا، ففقأ عينَيه وهامَ على وجهه..

وفي المسلسل الأمريكي الشهير (ثلاثة عشر سببًا) تعدّدت العواملُ التي دفعَت بطالبةٍ في مقتبل العمر نحو الانتحار، فأقدمت عليه بملءِ إرادتها بعد سلسلةٍ من الخيبات والضغوط..

وفي الواقع؛ ربَّما لم يكن (تشستر بنينغتون) أحد أعضاء فرقة (Linkin Park) قويًّا كفايةً -كما كان جلجامش- لِيواجِهَ حقيقةَ انتحار أحد زملائه في الفرقة، فأقدم على الانتحار في يوم ميلاد زميله، وودّع الحياة!

صراع طويلٌ وقديمٌ جدًّا بين إرادة الحياة والرغبة في الموت أو أذيّة النفس، ويتجلّى في كل الآثار والأفعال الإنسانية فنيّةً كانت أم واقعية، ويحاولُ العلمُ كلَّ يومٍ أن يدرسَ هذه الظاهرة المُحزِنة التي تدفَعُ الإنسانَ إلى إيقاف حياته طَوعًا، والتي على ما فيها من صعوباتٍ وعوائق تبقى جديرةً بأن تعاش بشجاعةٍ وعزم..

ومقالنا الآتي يتحدّث عن أثر الآباء المتدينين في توجه أبنائهم نحو الانتحار..       

لم يعُد من الغريبِ سماعُ خبر انتحار طالبةٍ هنا ومُغنٍّ هناك؛ فقد أصبحت هذه الظاهرةُ آفةً تنهشُ شرائحَ المجتمعِ المختلفةِ مخلِّفةً وراءها الأهل والأحبَّةَ والأصدقاء في صفوف الثَّكالى والمفجوعين.

ولسوءِ الحظ؛ فإنَّ معدلاتِ الانتحار في ارتفاعٍ ملحوظٍ في أنحاء العالم؛ فمثلًا ازدادَت نسبةُ الانتحار في الولايات المتحدة وحدها 30% منذ عام 1999 وحتى عام 2016، الذي انتحر فيه 45000 ألف شخص!

وإذا نظرنا إلى الأسباب التي تدفعُ إلى الانتحار؛ نجدها تتمثلُ في الاكتئاب، وضغوطات الحياة، والإدمانِ على الكحول، وتعاطي المخدرات، وضعف العلاقة العائليَّة، وأسبابٍ أخرى كثيرة.

وأمَّا عن العواملِ التي تخففُ خطرَ حدوثِ الانتحارِ عند الأفرادِ؛ فتكون

بالمعيشة الهادئة والظروف المستقرة والانسجام الأسريّ، ويبقى العاملُ الأهمُّ هو الإيمانُ الداخليُّ واستقرار الذات الذي تختلفُ طرائق الوصولِ إليه إمَّا من خلال الشعائرِ الدينيَّةِ وإمَّا بالتأمل والتصارح مع الذات.

ولكن ماذا عن تأثيرِ تَديُّن الآباءِ ودرجةِ إيمانهِم بمعتقداتهِم على الحالة النفسيَّةِ لأطفالهم واحتماليَّةِ انتحارهم في المستقبل؟

وفقًا لدراسةٍ حديثةٍ أجراها كل من معهد نيويورك للدراسات النفسية وجامعة كولومبيا، ونُشِرَت في مطلعِ شهر آب (أغسطس) الفائت، وتُبيِّن دَورَ المعتقدات الدينيَّة الفعَّالِ لدى الآباء في تخفيفِ احتماليَّةِ انتحار أولادهم في المستقبل؛ فإنَّ احتماليَّةَ حدوث محاولاتِ انتحار أو ورود أفكارٍ انتحاريَّة إلى الأبناء الذين يَحظون بآباءٍ متدينين أقلُّ بنسبة 80% من أولئك الذي يَحظونَ بأباءٍ لا يبالون بأهمَّيةِ الدين.

استمرت الدراسة مدة 30 سنة وتناولت عددًا كبيرًا من العائلاتِ من مختلفِ الأديانِ والطوائف (شكَّلت العائلاتُ المسيحيَّةُ الشريحة الأكبر منها).

وركّزَت الدراسةُ على أهمَّيةِ المعتقدات الدينيَّةِ عند الآباءِ وتأثيرها في تقليل إمكانيَّةِ حدوث سلوكياتٍ انتحاريَّةٍ في المستقبل عند أطفالهم. ومن الجدير بالذكر أنَّ مواظبة الأهل على حضور الطقوس الدينيَّة أو المكانة التي تحتلها هذه الطقوس لم يكن لهما أيُّ تأثيرٍ يُذكَرُ في نفسيَّة الأطفال أو احتماليَّة حدوثِ انتحارٍ في المستقبل، بل يتمثل تأثيرُ الدينِ في قوةِ الإيمانِ الداخليِّ عند الآباء، الذي كانَ عاملًا مساعدًا للأطفالِ، وتركَ فيهم أثرًا وقائيًّا من الانتحارِ في المستقبل.

وهكذا؛ فإنَّ التزام الآباءِ بالذهاب إلى دُورِ العبادةِ فقط لن يصنع الفارق؛ وإنَّما يُعدُّ الخشوعُ وإيمان الوالدين عاملَين مُساعدَين في تشكيل هيكلٍ أسريٍّ قويٍّ يُؤثرُ في أفرادِ الأسرة ويحثُّهم على الحب والحياة.

المصدر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا