الطب > مقالات طبية

السُّمنة تاريخُها وسببُ انتشارها

السُّمنة تاريخُها وسببُ انتشارها

لقد أوضحتِ الإحصاءات الحديثة أنَّ نِسَب السُّمنة تمضي في ارتفاع مُستمِرٍّ لدى المجتمع البشريِّ عالميًّا وما يصاحبها من الأمراض المُزمِنة العديدة (كمرض السكري)؛ فما السبب وراء وجود هذه المشكلة في مجتمعنا اليوم على نحو متزايد؟ وهل للجينات البشريَّة والوراثة أيُّ دورٍ؟ أم أنَّ انتشار السُّمنة هو نتيجةٌ للتغيرات في الحِمية الغذائيَّة والبيئة المحيطة بالإنسان في السنوات الأخيرة.

يؤدّي العاملُ الجينيُّ دورًا في اكتساب السُّمنة؛ إذ إنَّ بعض الأشخاص لديهم قابلية اكتساب الوزن أكثر من غيرهم، وهذا الاختلاف الجينيُّ مُتوارَثٌ من العائلة، وتعتمد نِسبة الدهون في الجسم على كفاءة الجهاز الهضميِّ في استخلاص المُغذيَّات الأساسيَّة من الطعام، وعلى مدى سهولة تخزين الجسم لهذه المغذيات في شكل دهون أو حرقها بوصفها مصدرًا للطاقة، وتعتمد على الشعور بالجوع أو بالشبع، وتتأثر هذه العوامل كلُّها بالمئات من الجينات المتوارثة، وهذا ما يوضح اختلافَ سرعة الأشخاص في تخزين الدهون.

ومع أنَّ لهذه الجينات التأثيرَ القوي في قابلية اكتساب الوزن الزائد، لكنَّ هذه الجينات موجودةٌ لدينا منذ ملايين السنين ولا يُمكنها أن تفسِّر الانتشار السريع لظاهرة السمنة دون تدخلٍ من العوامل البيئيَّة المحيطة.

ويُدعىَ الجينُ الأساسيُّ المتَّهمُ بتأثيره على إحداث السمنة بجين الـ "FTO"، ويمكن للتنوع في هذا الجين بين شخص وآخرَ أن يرفعَ نسبة خطر السمنة أو يُخفِّضها؛ مع العلم أنَّ تأثيرات هذا الجين تعتمد أساسًا على البيئة المحيطة، فيُولَد الإنسان بتسلسل جينيٍّ لا يتغير مدى الحياة؛ ولكنَّ نشاط هذه الجينات يتغير بمرونة اعتمادًا على العوامل المُحيطة التي تضغط عليه وتشكِّل طريقة عمله.

فحتى عند وجود تنوعٍ عالي الخطورة من جين الـ "FTO" لدى الإنسان؛ فإنَّ هذا الجين يؤثر تأثيرًا خفيفًا جدًّا في صحة الفرد إذا كان يتبع نظامًا غذائيًّا صحيًّا، ويتمرن تمارين كافيةً لصحة جسمه. فما التغير الذي حدث في مجتمعنا لدعم هذه الجينات المخزنة للدهون؟

كان البشر مُهدَّدين قبل بداية القرن الماضي نتيجةَ صعوبة الحصول على الغذاء، وأدّى هذا الضغط إلى نشوء تكيُّفات لدى البشر جعلتهم توَّاقين إلى الأغذية سريعة الهضم والتي -بطبيعة الحال- تُنتِج رغبةً بتناول المزيد حتى ولو حصل الجسم على كفايته من الطعام، ولقد كانت هذه التكيُّفات مهمَّة لدى أسلافنا للبقاء بصحة جيِّدة في أوقات العَوز الغذائيِّ، لكنَّها بالمقابل في يومنا الحاليِّ تسبَبت بتراكمِ كَميات خطيرة من الدهون لدى الإنسان.

وبالنظر إلى تطور البشريَّة؛ نجد أنَّ لها بعض التأثيرات السلبيَّة على أجسامنا؛ إذ يمتلك الجسم ساعة داخليَّة تُعرَف بـ ساعةِ النظام اليوميِّ (circadian rhythm)، وهي مسؤولةٌ عن ضبط سلوكيات الجسم من العمليات الجزئيَّة الصغيرة إلى سلوكيات النوم، وكانت هذه الساعة تَضبطُ عملها في الظروف الطبيعيَّة قديمًا حسب شروق أشعة الشمس وغروبها؛ لكنَّ الإنسان في زمننا هذا مُعرَّضٌ للضوء الاصطناعي ساعاتٍ طويلة من اليوم ممَّا يؤثر سلبًا على انسيابيَّة هذه العمليات في جسم الإنسان ومن ضمنها الاستقلاب، ومن التأثيرات الأخرى السيئة لتطور المجتمعات أنَّ بعض الأفراد لديهم قدرة الحصول على مختلف أنواع الغذاء دون بذل مجهودٍ كبيرٍ، وقد أصبح الطعام  في كثير من الأحيان مجرّد طريقةٍ من طرائق الرفاهية والاستمتاع في الحياة وليس من أجل الحصول على الطاقة فقط.

إنَّ هذه التغييرات في البيئة المحيطة تبدأ عملَها من الرحم؛ إذ تميل النساء اللواتي يعانين من زيادة الوزن في أثناء الحمل إلى إنجاب أطفال أكبر حجمًا وبدانة، وهم معرضون على نحوٍ متزايد لخطر الإصابة بالسِّمنة بعد النضوج أكثر من غيرهم.

وفي المقابل؛ فإنَّ النساء اللوّاتي يتعرَّضنَ لنقص الطعام في أثناء الحمل ينجبن أطفالًا صغار الحجم نسبيًّا، ولكن في حال أصبح الطعام مُتاحًا بعد الولادة فقد يعوِّض الطفل هذا النقص ويميل لتخزين كَميات كبيرة من الغذاء، ممَّا يؤدي أيضًا إلى السُّمنة وغالبًا إلى المعاناة لاحقًا من أمراض كالسكري وأمراض القلب والأوعية الدموية.

إنَّ المجتمع من حولنا يحثّنا على النهم في الطعام كمًّا ونوعًا، وهذا ما يزيد من درجة خمول الجسم ومن قدرته على تخزين الدهون، وإنَّ المزيج المُكوَّن من كلٍّ من عواملِ البيئة الحديثة والجيناتِ المسؤولة عن تخزين الدهون هو المسؤول عن تفاقم السُّمنة بسرعة في مجتمعاتنا.

المصادر:

1. هنا

2. هنا

3. هنا