الطب > مقالات طبية

تعرُّق رجال الإطفاء يُمثّلُ خطرًا كبيرًا على حياتهم!

يحتاجُ انتقال الماء من الحالة الغازيَّة إلى الحالة السائلة طاقةً حراريَّةً قدرُها 2260 كيلو جول/كغ، وعند انتقال الماء في الطريق المُعاكِس؛ أي من الحالة الغازية إلى الحالة السائلة فإنّه يُعيد إطلاقَ هذه الطاقة والتي تُعرَف باسم الطاقة الحرارية الكامنة للتبخُّر(Latent heat of vaporization)؛ وهي المسؤولة عن الحروق النَّاتجة عن بُخار الماء في وجود حرارةٍ عاليةٍ.

فرجالُ الإطفاء ليسوا عُرضَةً لخطر الاحتراق بالنيران أو الاختناق بأبخِرَة النيران فحسب؛ بل هم عرضةٌ للاحتراق نتيجة تبخُّر عرق أجسادهم أيضًا!

وذلك لأنَّ تعرُّق رجال الإطفاء المُتجمِّع على بدلاتهم الحامية وبوجود الحرارة العالية  يُهيِّئُ للتبخُّر الذي يتبعُه تكاثفُ قطرات البُخار على الجلد؛ إذ يبحث بخارُ الماء عن سطحٍ باردٍ يتكاثف عليه فيجد الجلدَ أمامَه، وتترافق عمليةُ التكاثف مع إطلاق طاقةٍ حراريةٍ تُسبِّب حروقًا شديدةً، وعُرفَت هذه الآليَّة بـ (آلية انتقال الحرارة العضوية المرتبطة بالرطوبة moisture-assisted bio-heat transfer mechanism).  

ولكن ما سببُ شدَّة الحروق ببخار الماء؟!

نفاذيَّة بُخار الماء عبر الجلد وتأثير الحرارة:

لاحظ العلماء أنَّ بخار الماء يخترق طبقات الجلد عن طريق المسامات والثقوب حتَّى يصل إلى الطبقة العميقة منه (الأَدَمَة)، فيبدأ بالتكاثف هناك مسببًا الحروق.

ووجدوا أيضًا أنَّه كُلَّما ارتفعت درجةُ الحرارة زادت سرعةُ اختراق بخارِ الماء إلى الجلد، وذلك باستخدام جلد الخنزير الذي يُطابق جلدَ الإنسان نسيجيًّا و كيميائيًّا؛ إذ عرَّضوا عيِّنَة منه لدرجة حرارة  70 درجةً في رطوبة نسبيَّة 75%، فوجدوا أنَّ نفاذيَّة بخار الماء زادت 50 مرةً مُقارنة معها في درجة الحرارة العادية! فما السَّبب وراء ذلك؟

جميعنا يعلم أنّّ جلد الإنسان يتكوَّن من طبقتين رئيسيَّتَين تحميان الأنسجة الدَّاخلية من العوامل في الخارج؛ (البشرة Epidermis، والأَدَمَة Dermis)، وتحوي طبقة البشرة خمس طبقاتٍ أخرى هي بالترتيب من الأسفل إلى الأعلى (قاعديَّة، شائكة، حبيبيَّة، صافية، متقرِّنة). وتُعدُّ الطبقةُ المتقرِّنة المؤثرَ الرئيس بين طبقات الجلد في النَّفاذيَّة؛ وذلك بسبب مُحتواها من الدُّهون والفراغات حُرَّة الحجم؛ إذ تحتوي على عددٍ كبيرٍ من

الممرات شبه نصف الدَّائرية، وهي مُحاطة بسلاسل ألكيلية من الدهون (alkyl chain packing lipids). وعندما تزداد الحرارة تُصبح اللِّيبيدات (الدهون) أقلَّ لُزُوجةً وتذوب جزئيًّا فتتخرَّب الروابط وتَكبُر الفراغات؛ ما يُؤدِّي إلى زيادة نفاذيَّة البخار عبرها!

بخار الماء وحروق الدَّرجة الثانية:

من المعروف أنَّ الحروقَ تُصنَّف من الدَّرجة الأولى في بداية عملية الاحتراق عندما تكون مُتوضِّعةً في البشرة، وهي أخفُّ درجة. وتُصنَّف من الدَّرجة الثانية والثالثة عندما تكون أشدَّ وأعمقَ؛ أي في الأَدَمَة وما تحت الجلد من عضلات وعظام، ولكنَّ الترتيبَ في حروق بخار الماء مختلفٌ عن ذلك؛ فبخار الماء يخترق طبقةَ البشرة عبر المسامات حتى يَصِلَ إلى الأَدَمَة، وهناك فقط يبدأ بالتَّكاثُف مُسبِّبًا حروقآ من الدَّرجة الثانية مباشرة دون أن يُؤذي طبقة البشرة في البداية.

لكن لاحقًا عندما ترتفع درجةُ حرارة الأَدَمَة كثيرًا تبدأ قطرات البخار بالتَّكاثُف على طبقة الجلد السَّطحية أيضًا بالآلية نفسها التي تحدَّثنا عنها (moisture-heat transfer mechanism) حيث تكون طبقة الجلد السَّطحية الأشد برودة بالنسبة إلى بخار الماء.

توصَّل العلماءُ إلى ذلك باستخدام جلد الخنزير أيضًا؛ إذ عرَّضوه لبخار الماء الحار مدَّة خمس دقائق، وقاسوا درجة رطوبة كل من طبقات الجلد باستخدام المايكروسكوب في أثناء هذه الفترة عن طريق Conformal Raman microscopy؛ وهي طريقة تَستخدم انتشارَ الضوء لأجل معرفة محتويات المواد وخصائصها الكيميائية. فوجدوا أنَّه في أثناء 15 ثانيةٍ من التَّعرُّض للبخار؛ ازداد مُحتوى الماء في كلٍّ من البشرة والأَدَمَة، وأنَّ مُحتوى الأَدَمَة ازداد كثيرًا قبل الطبقة المُتقرِّنة البشروية، وهذا يُؤكِّد أنَّ عملية التَّكاثُف تبدأ في الأدمَة، ولكنَّ الماءَ المُتكاثفَ في طبقات الجلد سيلجأ إلى التبخُّر مرةً أخرى بوجود الحرارة المُحيطة!

وبمقارنة خسارة الماء النَّاتجة عن تبخُّره بعدَ تكاثُفه في طبقات الجلد في وسطٍ حارٍّ ذي رطوبة عالية نسبيًّا بها في وسطٍ حارٍّ أيضًا ولكنَّه جافٌّ؛ وُجِدَ أنَّ خسارةَ الماء في وسطٍ جافٍّ تحدُث على نحوٍ أسرع منها في الحرارة الرَّطبة. ويُفسَّر ذلك بأنَّ الضَّغط الجزئيَّ العالي لبخار الماء في أثناء التَّعرُّض للبخار يُقلِّل من إمكانيَّة تبخُّر الماء المُتكثِّف في الأَدَمَة ويزيد فترةَ بقائه وتأثيره في الجلد، ومنه تزيد شدَّة الحروق.

ولمّا كان الجلدُ يُعَدُّ ناقلًا حراريًّا غيرَ جيِّد وخاصَّة الطبقات العميقة منه - إذ عندما يمتصُّ الطاقة الحرارية فهو لا يتخلَّص منها بسرعة بل يُطلقها ببطءٍ شديدٍ - فإنّه يزيدُ زمن تعرُّض نسيج الجلد للطاقة الحرارية، ويزيد بِدَوره شدَّةَ الحروق؛ وهذا ما يُعرَف بأثر ما بعد الحرارة (after heat effect).

وكلُّ ذلك يُؤكِّد أنَّ حروق البخار تُسبِّب خطرًا أكبرَ ممَّا هو مُتوقَّع!

المصادر:

هنا

هنا

هنا