علم النفس > القاعدة المعرفية

هل الحدس موجود لدينا فعلاً؟

هل الحدس موجود لدينا فعلاً؟

عادةً ما تكونُ أعمالنا وقدراتنا على اتّخاذ القرار نابعةً من تحليلٍ منطقيّ للأحداث المحيطةِ بنا، فعلى سبيلِ المثال؛ الدَّليل في الجريمة يوصلُنا إلى معرفةِ القاتل.

ولكن؛ عندما يقولُ المحقِّق بأنَّ حدسه يُخبره أنَّ أحدَهم هو القاتل دون وجود أيَّة أدلَّة، ويكون حدسُه صائبًا، فنحنُ هنا أمامَ حالة مختلفة تمامًا؛ إذ -وحسب معرفتنا- هناك الكثيرُ من الأشخاص القادرين على استشعارِ الحلّ الصَّحيح دون قدرتهم على تفسير سبب اختيارهم لهذا الحل.

ويعدُّ الحدس -في الحقيقة- ظاهرةً لافتةً للأداء العقليّ غير التحليلي؛ الأمر الذي أثار فضول الفلاسفة والعلماء على مرّ العصور.

بداية؛ للحدسِ تعاريفٌ كثيرة، ولعلَّ أشملها هو القدرةُ على الفهمِ الفوريّ واستشعار الحلّ دون تفكير واعي، ويُفسَّرُ أحيانًا على أنَّه شعورٌ غريزيٌّ عن صوابٍ أو خطأ ما.

ويتّصف الحدسُ بأنَّه عملية لا شعورية ومعقدة وسريعة أو تلقائية ولا علاقة لها بالعاطفة وغير انحيازيّة، فضلًا عن أنَّ الحدس هو جزءٌ من كلّ قرار، وقد اتّفق الفلاسفة والعلماء النفسيّون على أنَّ الحدس لا يدلُّ على شيءٍ مخالفٍ للعقل، وليس حاسَّة سادسة ولا ظاهرة خارقة، والأهم من هذا كلّه أنّه ليس عملية عشوائيَّة من التخمين؛ بل هو شكلٌ متطوّر من أشكال التفكير.

والأرضيَّة المشتركة الّتي يتفق عليها الجميع في الأوساط العلميَّة؛ هي أنَّ الحدسَ عمليةٌ قائمةٌ على الخبرة؛ إذ أشار البعضُ إلى أنَّ الحدس لا يأتي بسهولة، بل يتطلّب سنواتٍ من الخبرة في حلّ المشكلات وفهمًا متينًا لأدقّ تفاصيل الأشياء.

ويتّفق الباحثون حاليًا على أن الحدس ليس سحريًّا، ومن الممكن تعريفه وتفسيره على نحوٍ علميّ.

ويتضمَّن الحدس في الواقع ثلاثة جوانبٍ أساسيَّة:

- جانب المعالجة غير الواعية (والتي تُعدُّ من الوظائف الأساسيَّة للنّوى القاعدية).

- جانب التّلقائية أو عدم السيطرة؛ إذ يَظهر الحدس على هيئةِ أفكارٍ عفويَّة أو آنيَّة لا يمكن التّحكم باستحضارها أو تجاهلها.

- جانب التجربة؛ إذ يعتمدُ الحدس على المعرفة الضّمنية المُكتسبةُ دون انتباهٍ خلال حياة الشّخص (علماً أنَّ المعرفة الضّمنية مرتبطةٌ بالذَّاكرة طويلة الأمد).

وبعبارة أخرى؛ إنَّ الحدس هو المرحلة الأولية من عملية ترابط المعلومات النَّاتجة عن المعرفة الضّمنية، والتي تُكتَسبُ خلال حياة الشخص؛ ما يعني أنّه حساسيَّة واستجابةٌ لمعلومات ليست ممثلة بوعي، وقد توصَّل فريق من الباحثين -من جامعة نيو ساوث ويلز- في تجربة بحثيَّة فريدة من نوعها  إلى إثباتِ مدى أهميَّة الحدس في عملية صنع القرار.

إذ اعتمدَت التَّجربة على تعريض الأشخاص إلى صورٍ معيَّنة خارج نطاق وعيهم في أثناء محاولةِ اتخاذهم قراراتٍ دقيقة، وكانت التجربة كالآتي:

عرُض على مجموعة من المشاركين سحابةٌ من النّاقط المتحرّكة تشبه تلك التي كانت تَظهر على التّلفاز القديم، وكان على المشاركين تحديد الجهة الخاصة بهذه السحابة، أهي إلى اليمين أم إلى اليسار، وعُرّض المشاركونَ في أثناء ذلك إلى تِقنيَّة تدعى بالـ CFS أو إخماد الفلاش المستمر (Continuous Flash Suppression)؛ الأمر الذي جعل هذه الصّور غير مرئية؛ أي إنّهم لم يكونوا على علمٍ بأن دماغهم اللاواعي يتلقى هذه الصور في أثناء اتّخاذهم القرار

صورة توضح تقنية ال CFS.

وُضعَت مرآةٌ مجسَّمة على عيون المشاركين، وأُغلقت عين واحدة؛ الأمر الذي جعل  المشاركين يتلقون الصور بعين واحدة.

قُسِّمت هذه الصور إلى نوعين: إيجابيّة وسلبية؛ كانت الإيجابيَّة صورًا لجراء لطيفة، في حين كانت السّلبية صورًا لثعبان، وتبعًا لنوع الصّورة فإنّها كانت تشير إلى الإتجاه الذي تتحرَّك فيه سحابة النقاط (أي كانت هذه الصور بمثابة الُمرشد ولكن على نحوٍ غير واعي).

ومن المثير للاهتمام؛ أظهرت النتائج أنَّ الأشخاص الذين يتعرضون إلى الصّور اللاواعية كانوا قادرين على تحديد جهة سحابة النّقاط على نحوٍ أسرع وأكثر دقة من الأشخاص الذين لم يتعرَّضوا لهم.

ويشرحُ مصمّمو التّجربة ذلك بقولهم أنَّ أدمغة الناس كانت قادرة على معالجة معلومات الصّور واستخدامها من أجل تحسين قراراتهم.

ويضيفون إلى ذلك بالاستناد إلى النتائج أنَّ الحدس قد تحسَّن بمرور الوقت؛ ممَّا يشير إلى إمكانيّةِ تحسّن الحدس بالممارسة.

وفي النّهاية وبناء على هذه التجربة؛ يمكننا استخدام المعلومات الغير واعية في دماغنا لكي ترشدنا في هذه الحياة، وتساعدنا في اتخاذ قراراتٍ أسرع وأكثر دقة.

ومَنْ يعلم!!  قد نتمكن مستقبلًا من الاستفادة من الحدس في تحسين نوعية حياة الأشخاص بالاستناد إليها في اتّخاذ قراراتٍ أكثر حكمة.

المصادر:

1- هنا

2- هنا

3- هنا

4- هنا