الطب > مقالات طبية

الطاعون (الموت الأسود) و تأثيره عالجينوم البشري

الموت الأسود، رغم كونه واحداً من أكثر الأوبئة فتكاً بالبشرية، إلّا أنه لم يصب كل البشر بنفس النسبة.

بعض الناس لديهم اختلافات جينية في نظام المناعة أدت إلى عدم إصابتهم بالمرض، بينما البعض كانت لديهم اختلافات أخرى في الجينات أدت إلى إصابتهم ووفاتهم بسرعة كبيرة .وبسبب العدد الهائل من البشر الذين توفوا بسبب الطاعون، كانت تلك التنوعات والاختلافات الجينية ذات فائدة وتأثير على الأجيال اللاحقة .

نشأ مرض الطاعون في قارة آسيا ومنها انتقل إلى أوروبا عن طريق خط تجارة الحرير في عام 1340 م، وكان لذلك آثار مدمرة على نطاق واسع، حيث أسفر عن مقتل 1.5 مليون شخص في العامين الأولين. وبحلول نهاية القرن الرابع عشر، كان عدد سكان العالم قد انخفض من450 مليون إلى 350 مليون نسمة.

الموت الأسود كان سببه الطاعون، وهو مرض مميت ينجم عن بكتيريا تدعى "Yersinia pestis يرسينيا بيتيس"، والتي نُقلت بواسطة البراغيث عبر الفئران والحيوانات الأخرى التي كان لها اتصال وثيق مع البشر.

يمكن حالياً السيطرة بسهولة على الطاعون بوساطة المضادات الحيوية وهو ما لم يكن معروفاً أبداً في القرن الرابع عشر.

أدرك علماء الوراثة أن الطاعون لم يكن ذو تأثير عالمي لأن بعض البشر امتلكوا بعض الطفرات الجينية (الوراثية) التي أعطت أجهزتهم المناعية ميزة لا تصدق!

فالبشر الذين لم يمتلكوا مثل تلك الطفرات الجينية قد ماتوا، أما الذين امتلكوها فقد عاشوا و استمروا في التكاثر.

على الرغم من أن تلك الجينات المسؤولة لم يتم تحديدها بدقة بعد، إلَّا أن هذا يعتبر مثالا حيّاً على مبدأ الانتقاء الطبيعي!

ومن أجل تحديد الجينات المسؤولة عن هذا ،قام علماء المناعة ، البيولوجيا ، و علم الأوبئة بجمع المعلومات من مجموعة متنوعة من السكان والتي كانت معزولة - تناسلياً - عن بعضها إلى حد ما.

قبل عدة مئات من السنين قبل ظهور الموت الأسود، هاجرت جماعة من الغجر بعيداً عن شمال الهند إلى" Romania رومانيا". على الرغم من أن هذه الجماعة لم تتزاوج في كثير من الأحيان مع الأوروبيين والتي بقيت معزولة وراثياً، إلَّا أنهم تعرضوا لجميع العوامل البيئية نفسها الخاصة بالموت الأسود. لهذا كان للرومانيين الغجر والرومانيين الأوروبيين النسبة الأعلى من الجينات والطفرات الجينية المفيدة مقارنة بالغجر الأصليين الذين كانوا يسكنون شمال الهند، حيث الطاعون لم يصلهم أصلاً!

قام الباحثون بجمع عينات من الحمض النووي DNA من 500 شخص من كل مجموعة من (الغجر ،الرومانيين ،وسكان الشمال الهندي ) وقارنوها لمعرفة ما هي الجينات الأكثر تأثراً بالضغط الانتقائي للطاعون .

وجد الباحثون ما مجموعه 20 مورثة، و التي تختلف كثيراً في الغجر والرومانيين عن ما هي عليه في الهنود الشماليين. في حين كان متوقعاً أن يكون الغجر أكثر تشابها من ناحية التغييرات الجينينة (الوراثية) مع سكان الشمال الهندي منه مع الرومانيين .

وجد العلماء أن الاختلافات كانت في الجينات المسؤولة عن بعض المستقبلات ،التي تساعد الجسم على اكتشاف البكتيريا والقضاء عليها .

والآن، وبعد مئات السنين من تفشي مرض الطاعون، وُجِدَ أن التغييرات في الاستجابة المناعية قد زادت عند الرومانيين الغجر والأوروبيين، وتم أيضاً اكتشاف بعض هذه التغييرات عند الهنود الشماليين، ولكنها تعتبر طفرة محايدة إلى الآن، حيث أن البشرية لم يسبق لها أن تعرضت إلى مثل هذه الضغوط الانتقائية .

على الرغم من أنه لم يتم استبعاده تماماً، إلا أن التهجين بين الغجر والرومانيين قد لعب دوراً في هذا التباين المشترك، ولكن الباحثين لا يعتقدون بهذا حالياً.

نفس الجينات التي استفاد منها أسلافهم خلال أنتشار الطاعون، قد تؤثر على تفاعلهم مع الأمراض الحديثة، حيث أن الذين لديهم أصول أوروبية لديهم حالات أعلى من الاضطرابات الالتهابية (نتيجة لفرط نشاط جهازهم المناعي ) وذلك مقارنة بالذين لم يتأثر أسلافهم بمرض الطاعون .

إن الخطوات القادمة ستكون في إجراء بحوث في كيفية استجابة هذه الجينات للأمراض البكتيرية الأخرى لمعرفة فيما إذا كان الضغط الانتقائي الناجم عن الموت الأسود حقاً مدعاة للتقارب الوراثي !

المصدر: هنا

Photo credit: CDC