الرياضيات > الرياضيات

الاستقراء الرّياضيّ

من المعلوم أنّ المنهج المتّبَع في الرّياضيّات منهجٌ استنباطيٌّ يعتمد على التّجريد والانطلاق من معطياتٍ عامّةٍ تشمل الحالاتِ الخاصّةَ، وهو المنهج المتّبَع على سبيل المثال في حلّ المعادلات الرّياضيّة. وعلى النّقيض من ذلك؛ نجد أنّ الحقائق العلميّة التّجريبيّة غالبًا ما تعتمد على المنهج الاستقرائيّ في دراسة الحالات الخاصّة كلٌّ على حدةٍ عن طريق إجراء تجاربَ وإسقاط ما تُوُصِّل إليه من ملاحظاتٍ على الحالات بقيّتِها طبقًا لقاعدة التّعميم.

وليس مبدأُ الاستقراء حكرًا على العلوم التّجريبيّة، فقد أُدخِلَ على الرّياضيّات وشاع استخدامه في براهينها، وعلى الرّغم من وجود براهينَ استقرائيّةٍ قديمةٍ جدّاً يعود بعضُها إلى العهد الإغريقيّ والمدرسة الفيثاڠوريّة؛ يُعرَف باسكال Pascal بأنّه أوّلُ من استخدم الاستقراء في البرهان الرّياضيّ، ذلك بأنّه أوّلُ من صاغه على شكل تطبيقٍ منهجيٍّ، وأكسبه صفةً تجريديّةً أدقَّ وأشدَّ انسجامًا مع طبيعة الرّياضيّات.

مبدأ الاستقراء الرّياضيّ بسيطٌ ويُستخدم للتّحقّق من أنّ عبارةً رياضيّةً (P(n تنطبق على مجموعةٍ معيّنةٍ من الأعداد. ونفصّل هذا المبدأ فيما يلي: إذا كانت العبارة الرّياضيّة (P(n صحيحةً من أجل العدد الصّحيح n0، وإذا فرضنا صحّتها من أجل كلّ عددٍ k، واقتضى هذا الفرضُ صحّتَها من أجل كلّ عددٍ k+1، فإنّها صحيحةٌ من أجل كلّ n أكبر أو تساوي n0.

نعبّر عن ذلك رياضيًّا كما يلي:

نقول إن العبارة الرّياضيّة (P(n صحيحةٌ من أجل كلّ عددٍ طبيعيٍّ n أكبر أو تساوي n0 إذا تحقّق كلٌّ من الشّرطَين:

الأمر شبيهٌ بدفع قطعة دومينو أمامها صفٌّ من القطع الأخرى؛ إذ سيكون من البديهيّ عندها التّنبؤُ بسقوط جميع القطع، فلمّا كانت كلُّ قطعةٍ تسقط تؤدّي إلى سقوط القطعة الّتي تليها، وحتّى وإن وُجِد عددٌ غيرُ منتهٍ من قطع الدّومينو، ستسقط بعد دفع القطعة الأولى القطعُ كلُّها إلى ما لا نهاية.

يمثّل دفعُ القطعة الأولى هنا ما يعرف في الاستقراء الرّياضيّ بالحالة الأساسيّة Base Case، وفيها يُتحقّق من صحّة العبارة من أجل عددٍ واحدٍ هو العدد الأوّل في المجموعة العدديّة المُراد البرهانُ من أجلها، وغالبًا ما يكون هذا العددُ الصّفرَ أوِ الواحد.

ويمثّلُ سقوطُ القطع الّتي تليها خطوةَ الاستقراءِ Inductive Step، الّتي تُثبَتُ فيها صحّةُ العبارةِ من أجل الأعداد الأخرى في المجموعة.

ولِكَي تتّضح المسألة، نأخذ على سبيل المثال أشهرَ وأبسطَ استخدامٍ للاستقراء الرّياضيّ، ألا وهو إثبات صحّة المساواة أدناه:

1+2+3+...+n=n(n+1)/2……………. (*)

بَدْءًا بالحالة الأساسيّة، هل هذه العبارة الرّياضيّة صحيحةٌ من أجل n=1؟

نعم، لأنّ طرف المساواة اليساريّ يمكن التّعبير عنه بأنّه مجموع الأعداد من 1 إلى n، وهكذا فإنّ قيمة هذا الطّرف تساوي 1 عندما n=1، وتساوي - بالتّالي - قيمةَ طرف المساواة اليمينيّ، إذ إنّ n(n+1)/2=1(1+1)/2=2/2=1. وهكذا يتحقّق الشّرط الأوّل.

ننتقل إلى خطوة الاستقراء، فنسأل: بافتراض أنّ كلّ عددٍ طبيعيٍّ n يحقّق العبارة سالفة الذِّكر، ماذا عن n+1؟

من أجل n+1 تصبح المساواة على الشّكل:

1+2+3+...+(n+1)=(n+1)[(n+1)+1]/2

أي:

1+2+3+...+(n+1)=(n+1)(n+2)/2

إن أمعنّا النّظر في الطّرف اليساريّ من هذه المساواة، نلاحظْ أنّ الحدّ الأخير في المجموع n+1 ليس إلّا العدد الطّبيعيّ الّذي يلي العدد n، ولذلك يمكن كتابة طرف المساواة اليساريّ على الشّكل:

1+2+3+...+n+(n+1)

وبما أنّنا افترضنا صحّة المساواة (*) من أجل n، يصبح الطّرف اليساريّ على الشّكل:

n(n+1)/2+(n+1)

وبإخراجِ n+1 عاملًا مشتركاً يصبح لدينا:

(n+1)(n/2+1)=(n+1)[2(n/2+1)/2]=(n+1)(n+2)/2

وهو ما يساوي طرف المساواة اليمينيّ، فالعبارةُ صحيحةٌ من أجل n+1 بفرض أنّها صحيحةٌ من أجل n، وهكذا يتحقّق الشّرط الثّاني. ولتحقّق الشّرطين معًا، يمكننا القولُ إنّ العبارة (*) صحيحةٌ من أجل كلّ عددٍ طبيعيٍّ n.

كيف أثبت الاستقراء الرّياضيّ صحّتها؟

لقد أثبتنا أنّ صحّتها من أجل n  تقتضي صحّتها من أجل n+1، أو بكلماتٍ أخرى، صحّةُ هذه العبارة من أجل عددٍ ما تقتضي صحّتها من أجل العدد الّذي يليه، ولكن قد سبق أن تحقّقنا من صحّتها من أجل n=1، ما يعني أنّها صحيحةٌ من أجل العدد الّذي يليه n=2، ولمّا كانت صحيحةً من أجله فهي صحيحةٌ من أجل العدد الّذي يليه n=3، وهكذا إلى ما لا نهاية.

ولننتقل الآن إلى برهانٍ أقلَّ بساطةً: لنتحقّق من أنّ المقدار 11n-4n يقبل القسمة على العدد 7، علمًا أنّ n عددٌ طبيعيٌّ.

نقول أوّلًا: إذا كان n=1 فإنّ 111-41=7، وهو يقبل القسمة على 7، إذًا (P(1 صحيحةٌ.

ثمّ نفرض أنّ (P(n صحيحةٌ من أجل كلّ عددٍ طبيعيٍّ n، ونبرهنُ صحّتها من أجل n+1، وذلك يعني أن نبرهنَ أنّ المقدار 11n+1-4n+1 يقبل القسمة على العدد 7:

11n+1-4n+1=(11n)(111)-(4n)(41)=(7+4)(11n)-(4)(4n)=(4)(11n-4n)+(7)(11n)

حسب فرضنا أنّ (P(n صحيحةٌ من أجل كلّ عددٍ طبيعيٍّ n، يمكن كتابة  11n-4n على شكل الجداء 7K، بما أنّه يقبل القسمة على العدد 7. وهكذا تصبح المساواة السّابقة على الشّكل:

11n+1-4n+1=(4)(7K)+(7)(11n)=7(4K+11n)

وهذا المقدار يقبل القسمة على 7، وبذلك يتحقّق الشّرط الثّاني أيضًا، ونستطيع القول إنّ العبارة (P(n صحيحةٌ من أجل كلّ عددٍ طبيعيٍّ n، ما يعني أنّ المقدار 11n-4n يقبل القسمة على العدد 7، أيًّا كان n من الأعداد الطّبيعيّة.

يبدو أنّ الاستقراء الرّياضيّ استنباطيٌّ على خلاف ما يوحي به اسمُه، فإثبات أنّ صحّةَ حالةٍ معيّنةٍ تقضي بصحّة الحالة الّتي تليها هو بحدّ ذاته برهانٌ استنباطيٌّ، لذا فالاستقراء الرّياضيّ يختلف عن الاستقراء الفلسفيّ أو الاستقراء المتّبَع في العلوم التّجريبيّة، الّذي ينطلق من ملاحظة عددٍ محدودٍ من الحالات والتّأكّد مثلًا من صحّة (P(1 و(P(2 و(P(3 فحسبُ ثُمّ تعميمِها والقولِ إنّ الأمر ينطبق على الأعداد جميعِها، والرّياضيات ترفض ذلك لأنّه يتعارض مع دقّتها ويقينيّتها المطلقة.

 المصادر:

هنا

هنا

هنا