التعليم واللغات > اللغويات

هل تؤثر اللغة في عاداتِنا في الإنفاق وتناول الطعام والتدخين؟

اكتشف اللغويون في عام 1930 أنَّ الطريقةَ التي نقرأ بها ونكتبُ ونتحدث إنّما تُحدِّدُ الطريقةَ التي نفهم بها العالم؛ إذ نجدُ مثلًا أنَّ اللغاتِ التي لديها كلمةٌ واحدةٌ فقط تُطلَق على اللونَين البرتقالي والأصفر يواجهُ متحدثوها صعوبةً في التفريقِ بين اللونين، ثمَّ إنَّ المتحدثين بلغة الكوك تايوري -التي لا تحتوي على الكلمتَين "اليمين" و"اليسار"- يحدّدون اتجاهاتِهم تبعًا للاتجاهات الأصلية (الشمال والجنوب والشرق والغرب)، ممَّا يعزّزُ وعيَهم بالإحداثيات الجغرافيةِ والفلكية طوال الوقت.

وفي عام 2012؛ نشر (كيث تشين) بحثًا يطرحُ فيه فرضيةً تقول بأنَّ متحدثي اللغاتِ التي لا تحتوي على دلالة زمنيَّةٍ للفعلِ المستقبل يُظهِرونَ حسًّا أكبرَ للتخطيط المستقبلي؛ فعلى سبيل المثال؛ نقول في اللغة الإنجليزية: "I will go to the play tomorrow" "سوف أذهب إلى المسرحية غدًا"، ونرى هنا مثالًا واضحًا على الدلالة الزمنية للفعلِ المستقبل. أمَّا في لغة المندرين والفنلندية؛ والتي قلَّما يُستخدَمُ فيها فعلُ المستقبل؛ قد تكونُ أكثرُ جملةٍ مُلاءَمةً لها هي: "أذهب إلى المسرحية غداً" "I go to the play tomorrow".

وتساءل تشين عمّا إذا كان متحدّثو اللغاتِ اللاتي تنعدمُ فيها دلالة مستقبلية يفكّرون كثيرًا بالمستقبل بوصفهِ مساويًا للحاضر نحويًّا في أذهانهم. ولذلك؛ فقد درسَ العديدَ من اللغات الأوروبية الَّتي تحتوي دلالةً زمنيةً للفعل المستقبل منها والتي لا تحتوي ذلك، ثمَّ ربطَ البيانات بسلوكياتٍ ذاتِ طابعٍ مستقبلي؛ مثل الادّخار والتدخين واستخدام الواقي الجنسيّ.

لقد اكتشفَ على نحوٍ بارزٍ أنَّ المتحدثين باللغات التي لا توجد فيها دلالةٌ مستقبليةٌ -مثل الألمانية والفنلندية والأستونية- يتفوّقون على أولئك الذين يتحدّثون بلغاتٍ تحتوي دلالةً مستقبلية للأفعال -مثل الإنكليزية- في ادّخار الأموال بنسبةِ 30%، وفي تجنُّبِ التدخين بنسبةِ 24%، وفي ممارسةِ الرياضة بانتظامٍ بنسبةِ 29%، وفي انخفاضِ البدانة لديهم بنسبةِ 13%.

وبعد ذلك؛ قارنَ تشين بين الذين وُلِدوا وتربّوا في هذه الدول، إضافةً إلى ملاحظةِ عدةَ عواملَ أُخرى مثل العمر وعدد الأولاد، فتوصَّلَ إلى النتائج ذاتها؛ إذ أظهرَ المتحدثون باللغاتِ التي لا يُوجَدُ فيها دلالةٌ للمستقبل إحصائيًّا وفعليًّا أنَّهم أكثرُ مسؤوليّةً تجاهَ السلوكياتِ التي تتعلَّقُ بالمستقبل؛ حتَّى في سويسرا التي تندمج فيها اللغاتُ ذاتُ الدلالة المستقبلية مثل الفرنسية باللغاتِ التي لا يُوجد فيها دلالة مستقبلية مثل الألمانية.

وواجهتِ هذه الفرضيَّةُ العديدَ من الانتقاداتِ في بادئ الأمر من بعض المتخصِّصين في الاقتصاد واللغة، ولكنَّهم ذُهِلوا بعدَ مراجعتِهم للنتائجِ التي توصَّل إليها تشين في بحثِه الذي بدأه في 2012 ونُشِرَ في American Economic Review في عام 2013.

لقد ختم تشين بحثه بقوله: "إنَّ القضية المهمة التي تظهرُ عندَ تحليل هذه النتائج هو احتمالُ أنَّ اللغاتِ لا تُسبّب ذلك بذاتها، وإنَّما تعكسُ الاختلافاتِ العميقةَ التي توجِّه سلوكيات الادّخار". ويضيفُ: " تتّسقُ نتائجُ الدراسة التي أنجزتُها اتّساقًا كبيرًا مع الفرضيةِ بأنَّ اللغاتِ التي تُلزِمُ متحدثيها باستخدامِ دلالةٍ خاصّةٍ للفعل المستقبل تقودُهم إلى التخفيفِ من الاندماجِ بالسلوكيات التي تعتمد على المستقبل".

لقد ردَّ تشين ردًّا متواضعًا جدًّا على مُنتقدِي دراسته، وأمّا للذينَ يعانونَ كثرةَ تأجيل الأعمال وفقدانَ الحافز لإنجازها في الوقت المناسب؛ فنقول لهم: ربّما لا يضرّكم تعلُّمُ لغةٍ جديدةٍ لا تحتوي على دلالة زمنية للمستقبل -مثل الأستونية-  لِتساعدَكم في إنجازِ أعمالِكم وتطويِر حياتكم باستمرار، أو ربَّما عليكم -إذا ما أردتم تبسيطَ المسألة- أن تتحدَّثوا مع أنفسِكم وتوجّهوا رسائلَ مُلهِمةً في صيغة الفعلِ الحاضر عندَ الحاجة.

ويمكنكم أن تشاهِدوا تفاصيلَ فرضية تشين بالرسوماتِ المتحركة في هذا الفيديو. هنا

المصدر: 

هنا