منوعات علمية > منوعات

أصلُ الحياةِ المحتمل

نحنُ كائناتٌ معقدةٌ جداً، لدرجة أنَّ الإنسانَ لطالما شغلَ نفسَه طويلًا في التفكيرِ عن أصلهِ وسببِ وجوده. إذْ تعددتِ الإجاباتُ خلالَ الأزمنة، ابتداءً من النظريات الّتي تقترحُ الخلقَ المستقلَّ لكلِّ كائنٍ على حدة أو أُخرى تقول إنَّ مخلوقاتٍ عُليا أتتْ من السماء وتدخّلت في إنشائنا، وصولًا إلى ما يتمُّ مناقشتُهُ في وقتنا الحالي على نحوٍ علميٍ عن كائناتٍ دقيقةٍ تطوّرت عن طريق الطفرات. فهل يملكُ العلمُ فعلًا الإجابةَ الحتميّةَ عن هذا السؤال؟

بالرغمِ من التطوّرِ العلمي في الكيمياء، والفيزياء، والأحياء والفلك، لكنَّ الإجابةَ ما زالتْ غيرَ محسومة.

وغالباً ما يناقشُ المجتمعُ العلمي التطورَ من منظورَيْن: هل الحياةُ على كوكبِ الأرض نتيجةَ تسلسلٍ طويلٍ ومحتومٍ لقوانينِ الكون- أو ما يُعرف بالتصميم الذكي- أم أنّها مجردُ صدفةٍ تتبعُ عدةَ متغيراتٍ جرتْ خلالَ زمنٍ طويلٍ جدًا ومن ثمَّ استمرت وتطورت؟ ولكننا نستطيعُ القولَ إنَّ الإجابةَ صارتْ قريبةً، إذْ إنَّ التقاربَ بينَ علومِ الكيمياء والأحياءِ يزدادُ يوماً بعدَ يوم، وهذه الصلةُ قد تمكِّننا يومًا ما من إنشاءِ أولِ خليةٍ مخبرية.

فكرةُ نشوءِ الحياة من مكوناتٍ بسيطةٍ أتتْ بعد ما أثبتتْ نظريةُ التطور صحتَهَا عبرَ العلومِ المختلفة، إذْ إنَّ نظريةَ التطور أتتْ بدايةً في القرن التاسعَ عشرَ عبرَ الباحث تشارلز دارون، ومن ثمَّ جاءتِ العلومُ الأخرى كالبيولوجيا لتدرسَهَا على نحوٍ أعمق عبرَ فهمِ الخليةِ البسيطةِ أو الجيولوجيا لتكشفَ التسلسلَ الزمني للمستحاثّات والإحفوريات خلالَ فترةٍ طويلةٍ جدًا، إذْ إنّ الكائناتِ الحيّةَ عبرَ ملايين السنين تطوّرتْ إلى كائناتٍ معقدةٍ أكثر وأكثر، بالإضافةِ إلى العلومِ الطبيّةِ التي نظرت للتسلسلِ الجيني الذي نستطيعُ تعقبَهُ عبرَ آلافِ السنين للوراء وربطَ هذه التسلسلاتِ الجينيّةِ مع كائناتٍ مختلفةٍ ما زالت أقل تعقيدًا. باستطاعتنا القولُ إنَّ هذه العمليةَ الطويلةَ من "التطوّر" كانت تمشي في كلِّ الاتجاهاتِ، إذْ نتجَ عنها الكثيرُ من الطفراتِ المفيدة أو تلك غير الضرورية للتطور. وما قد نجدُهُ الآن على الأرض من تنوّعٍ حيويٍ يمثلُ قرابة عشرة بالمئة من تلك الكائنات التي تطورت، إذْ إنّ 90 بالمئة من هذه الكائناتِ قدِ انقرضتْ خلالَ الكوارث التي حلّت على كوكبِ الأرض، ولم يبقَ منها إلا الأصلح للبقاء.

لكن إلى أينَ نستطيعُ الرجوعَ بالزمنِ إلى الوراء وهل نستطيعُ أن نعيدَ الزمنَ ونبدأَ تطويرِ خلايا مخبرية؟

في الخمسينياتِ من القرنِ العشرين، قامَ العالمان هارولد اوري وستانلي ميلر Stanley Miller und Harold Urey بأولِ تجربةٍ لتشكيلِ الأميناتِ الأساسيةِ لتكوينِ الحياة Der Miller-Urey-Versuch ، إذْ قامَا بمحاولةٍ لمحاكاةِ ما قد حصل قبلَ ملياراتِ السنين على كوكبِ الأرض عندما كانُ يمتلكُ القليلَ من المكوناتِ الأساسيةِ مثلَ الماء والميثان والهيدروجين والأمونيا، معَ وجودِ حرارةٍ مرتفعةٍ نتجتْ من الاحتباسِ الحراري آنذاك وبعضِ الكهرباء لمحاكاةِ الرعودِ التي قد ساعدَتْ في الدمج.

التجربةُ تكللتْ بالنجاح، وتكوَّنتْ عن هذهِ التجربةِ خمسُ أميناتٍ مختلفةٍ مع كربوهيدرات وحمضيات. شكّلتْ هذه التجربةُ ضوءَ أملٍ في بداية مشوارٍ طويلٍ، إذْ إنّ علماءَ اليوم أعادوا التجربةَ مع تعديلاتٍ للمكوّناتِ الأساسية، ونتجَ عن التجربةِ أكثرُ من عشرينَ حمضاً أمينياً مختلفاً.

ولكنَّ الطريقَ ما زالَ طويلاً لرؤيةِ الصورة كاملةً، فما يزالُ يلزمُنا فهماً أكثر لكيفيةِ تكوّنِ الكواكبِ والبيئة التي نتجتْ فيمَا بعد، والتي ساعدتْ على تكوينِ الحمضِ الأميني شديدِ التعقيد، والذي بدوره يقومُ بتكوينِ ونقلِ بياناتِ المعلومات في الكائنات والذي يُعرف ب RNA.

يعتقدُ العلماءُ أنَّ أولَ كائنٍ حيٍ امتلكَ أبسطَ حمض RNA كانَ قبل 3.6 مليارات سنة، والذي أسموه ب لوكا

-LUCA-last universal common ancestor ويُعرف أيضاً بآخر سلف مشترك شامل. إذْ إن تَتبُعَ عملية التطوّر بعد هذا الكائن ذي الخليةِ الواحدةِ يصبحُ أسهلَ نوعاً ما.

ولكن تبقى الإجابةُ مجهولةً عن أسئلةٍ مهمةٍ، فمثلًا كيفَ كانتْ عمليةُ إنشاءِ هذا الحمضِ الأميني من مكوناتٍ كيميائية بحتة، أو كيف تمت إحاطتها بغشاءٍ دهنيٍ ليبيدي لتكوينِ أول خلية؟

ولفهمِ كيفيةِ نشوءِ هذه الحياةِ البدائية، يلزمُنا الكثيرُ عن فهم تكوّنِ الكواكبِ والمكوّناتِ الناتجةِ عنها. يوجدُ في يومنا هذا جيلٌ جديدٌ من التلسكوبات الراديوية، ولا سِيَّما منشأة Atacama الكبيرة في صحراء أتاكاما في تشيلي، التي بدورها ساعدتْنَا على أخذِ صورٍ لأقراصِ كواكبٍ أولية، وكشفتْ عن بعضِ مكوناتها الكيميائية. هذه المعلومات قد تسهّلُ الطريقَ للوصولِ إلى معرفةِ كيفيةِ نشوءِ كوكبِ الأرض ونشوءِ الحياةِ عليه.

ولكن، ما الذي نستفيدُهُ عندَ الإجابة عن هذه الأسئلة؟

بالتأكيد سيريحُ هذا بعضَ العقولِ الحائرة السائلة عن كيفيةِ وجودِنا في هذه الحياة، بالإضافةِ إلى أنَّ  فهمَ كيفيةِ تكوّن الحياة يفتحُ أبواباً جديدةً لكثيرٍ من المشاكلِ التي نواجهها الآن. مثل فهمِ الأمراض وإيجادِ أدويةٍ مضادةٍ لها، أو إنقاذِ البشريةِ من الانقراض. ففهمُ أصلِ الحياة يساعدُنا مثلًا على ما قد يتمُّ توظيفُهُ في إعادةِ تأهيلِ كوكبِ المريخ للحياة في حالِ خرابِ الكوكبِ الأزرق الذي يستضيفُنا الآن.

المصدر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

إعداد: Mohammed Alhamzi