الطب > مقالات طبية

هل أدمغتُنا وحدَها مسؤولةٌ عن قراراتنا وأفعالنا؟

بعد أن بدأت تتوطَّدُ مؤخَّرًا فكرةُ أنَّ أدمغتنا تعملُ كما الحواسيبُ العملاقة الفائقةُ الإمكانات؛ بتنسيقِها وتحديدِها كلَّ ما نفعله؛ أوضح البروفيسور آلان جاسانوف - مديرُ مركز الهندسة البيولوجية لعلم الأعصاب في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا - في كتابٍ جديدٍ له بعنوان The Biological Mind أسبابَ تعزيز مفهوم " الغموض الدماغي" لإحداث انفصالٍ خاطئ بين الدماغ والجسم، مُؤكِّدًا أهميَّةَ  تفاعُلِ الدّماغِ والجسدِ والبيئة معًا لتجعلَنا مَن نحن.  وفي نظر كثيرين؛ يُعَدُّ الدماغُ وحدَه مقامَ الهويَّة الشخصيّة والاستقلاليّة، لكنَّ الطريقةَ التي يتحدثون بها عن الدماغ غالباً ما تكون متجذّرةً أكثر في المفهوماتِ الغامضةِ للروح أكثرَ منها في الحقيقةِ العلميّة. وهذا بالطبع سوف يُعميهم عن الحقائق الفيزيائيَّة للوظيفة العقلية، متجاهلين التأثيراتِ الجسديَّة في نفسيَّاتنا بَدءًا من المواد الكيميائيَّة الموجودة في الدم، وانتهاءً بالبكتيريا الموجودة في الأمعاء. 

وأمّا عن دور البيئة بتأثيرِها في سلوكنا فقد آثر جاسانوف القولَ: "النَّاسُ مثلُ النباتاتِ، تزدهرُ أو تتلاشَى مع الطقس" إذ يَعُدُّ أنَّ كلًّا من وجودِ الألوان في بيئتنا والتغيُّراتِ في الضوء المحيط ودرجةِ الحرارةِ أيضًا يمكنُ أن يكون لها تأثيراتٌ كبيرة فينا، سواءٌ كانت في الجوانب العاطفيّة للشخصيّة أم حتى في الوظائفِ المعرفيّة.

لكن؛ ماذا عن مشكلات السلوك البشري من إدمانِ مخدِّراتٍ أو حتَّى اضطراباتِ الأكل؟

انتقدَ جاسانوف الغموضَ الدِّماغي بإحالته مشكلاتِ السلوكِ البشري إلى مشكلةٍ في الدماغ، فلم يعُد ينظرُ إلى مثلِ هذه المشكلات بوصفِها "عيوبًا أخلاقية" وإنَّما نتيجةَ "تعطيلٍ دماغيّ". وبهذه النظرة المتغيِّرةِ تقلُّ الوصمةُ المُرتبِطةُ بالاضطراباتِ النفسيَّة كنقطةٍ إيجابية، لكن بالمقابل؛ هناك مشكلةٌ! فما هي؟

لاحظَ جاسانوف ضمنَ دراسته أنَّ المجتمعَ يرى التعطيلَ الدماغيَّ أصعبَ إصلاحًا من العيوب الأخلاقيّة، وهذا سيجعلُ الحياةَ تبدو أكثرَ صعوبةً للأفراد الذين يعانون بالفعل من الأمراض العقلية، ولذلك لا بدَّ من أن يكونَ للمجتمعِ نظرةٌ أكثرُ شموليةً للدماغ وهي إدراكُ تأثيرِ كلٍّ من البيولوجيا والبيئة والثقافة معًا في السلوك الإنساني. 

ولتأكيد هذه النظريات؛ يطوّرُ مختبرُ جاسانوف جيلًا جديدًا من أساليبِ التصوير بالرنين المغناطيسي MRI لدراسةِ الآلياتِ العصبيّةِ للسلوك. وينصبُّ تركيزُه الأساسيُّ على تصميمِ عواملِ تباينٍ جديدةٍ وتطبيقها؛ ممّا قد يساعدُ في تحديد الأنماط الزمانيّة المكانيّة للنشاطِ العصبي بدقّةٍ أفضلَ ممَّا تسمحُ به التقنياتُ الحاليّة. 

وأخيرًا، بعد أن وصلت لهذه النقطة ألا تَعُدُّ أنَّ هناكَ مُبالغةً في مساواةِ العقولِ بالآلاتِ غيرِ العضويّةِ المُجرَّدة مثلَ أجهزةِ الكمبيوتر؟ أكّد جاسانوف على أنَّ الدماغَ ليسَ روحًا ولا شبكةً كهربائيّة! إنَّه عضوٌ جسديٌّ متوافِقٌ مع باقي الجسمِ والبيئة، وكذلك الأمر بالنسبة إلى نفوسِنا؛ فهي ليست داخلَ رؤوسِنا فحسبُ، وإنَّما نتاجُ تفاعلاتِ الموادّ الكيميائيَّةِ الموجودةِ في أجسادِنا مع كلّ شيءٍ آخرَ يحيطُ بِنَا. وبمجرَّدِ أن نتصالحَ مع هذا؛ يمكنُنا حينَها فهمُ الطبيعةِ الحقيقيَّةِ لإنسانيَّتنا وإدراكُ أنَّ الوظائفَ العقليّةَ التي ننسبُها عادةً إلى الدماغ هي في الواقع وظائفُ الجسمِ ككُلّ؛ إذ إنَّ هناكً ميلًا عامًّا في تفسيرِ السلوكِ البشري من وجهة نظر تأخذ بالحُسبان دور وظائف المخ وحدَها، ممَّا يؤدي الى نوعٍ من الرؤيةِ الغامضةِ للدماغ تمنعُنا من التقدُّم بطريقةٍ يمكنُ أن يشجعنا بها العلم. 

المصدر:

هنا

هنا

هنا

هنا