الكيمياء والصيدلة > علاجات صيدلانية جديدة

مقاربةٌ لعلاجِ السَّرطان؛ وداعًا لتساقُطِ الشَّعر والإقياء!

بالرجوعِ إلى عام 1600 قبل الميلاد؛ وضمنَ أقدمِ مخطوطةٍ طبيَّةٍ كتبَها المصريون القدماء "مخطوطةُ إيديون سميث"؛ والَّتي تتضمَّنُ إحصائياتٍ مكتوبةً عن السَّرطان لم يكن بإمكان الأطباءِ الذين كتبوا هذه الإحصائيات تخيُّلُ ما توصَّل إليه علماءُ الأبحاث الجزيئية في عصرِنا الحالي.

تمكَّن علماءُ اليوم من الوصولِ إلى جذورِ بعضِ الأمراضِ كالسرطان؛ وذلك بالاستعانة بعلمِ الجُزيئاتِ والتفاعلاتِ الكيميائية المُصغَّر، والنظرِ إلى هذه الأمراض من منظور جديد، وهذا ما زاد الأمل بتدخُّلاتٍ جديدة في علاج السرطان.

اكتُشِفَت آليةٌ حديثةٌ للعلاج الكيماوي، وتستطيعُ هذه الآلية تقليلَ الآثارِ الجانبيةِ المُعتادَة للعلاج الكيماوي تقليلًا ملحوظًا، وهذا ما كان من أهمِّ المُنجَزات العلميَّة عام 2015.

وغالباً ما يرتبطُ مرضُ السَّرطانِ بالأورام؛ لكنَّ هذه الأورامَ ليست سرطانيّةً كلُّها؛ وإنّما الخبيثة منها فقط، وتُعَدُّ البيئةُ المحيطة من الأسباب الرئيسةِ المُحرِّضةِ على حدوثِ معظم حالات السرطان، في حين تعودُ عُشْرُ الحالاتِ إلى أسباب وراثية فقط. ومن الجدير ذكرُه أنَّ أغلبَ حالاتِ الإصابةِ بالسَّرطان في أنحاءِ العالم ترتبطُ بالبدانةِ ونمطِ الغذاء واستخدام التبغ، ولكن؛ هناكَ أكثرُ من 100 نوعٍ من السرطان ربَّما لم نسمَعْ بهم بعدُ.

وربَّما فكّرَ معظمُنا في سببِ عدمِ وجودِ علاجٍ مضمونٍ للسرطان، لكنَّ الجوابَ الأبسط لذلك هو أنَّه لايوجدُ دواءٌ يؤدّي عملَه بوصفهِ مضادَّ سرطانٍ دون أن يُعدَّلَ ضمن الجسم من شكله غير الفعّال إلى الشكل الفعّال.

وغالباً ما يستخدمُ العلماءُ مصطلح "طليعة الدواء" للإشارةِ إلى الدواء المُضادّ للسرطان؛ أي إنَّ العلاجَ الكيماويَّ المأخوذَ غير فعَّالٍ كما هو، بل يحتاج إلى أن يُستقلَبَ إلى مُركَّبٍ فعَّال يؤدّي الوظيفةَ المُضادَّة للسرطان.

والسبب في استخدامِ هذا المصطلح هو أنَّه بمجرَّدِ حقن الدواء ضمن الجسم؛ ستحدثُ عليه تفاعلات حيويّة تُغيِّر من صيغته الجزيئيَّة، وهي ناتجةٌ عن تداخُلِه مع العناصر الحيوية الموجودةِ في الدَّم أكثرَ من تداخله مع المواقع المُستهدَفة بالعلاج. ويحدثُ التداخُل بين الخليَّةِ السرطانيَّةِ والعلاج الكيماوي على مستوى المادة الوراثية (DNA)؛ إذ يرتبطُ الدَّواءُ مع منطقةٍ محدَّدةٍ على خيط الـ DNA مُعيقاً عملية تضاعُفه، وبذلك يمنع الخليةَ السرطانيةَ من الانقسام وإعطاءِ خليَّةٍ بنتِ سرطانيةٍ أُخرى.

لم تكن آليّةُ العلاجِ الكيماوي معروفةً بهذا الوضوح سابقًا، ممَّا أدَّى إلى آثار جانبيَّةٍ عديدة، منها تساقُطُ الشعرِ والإقياءُ، والأورامُ الثانوية، والتعبُ والتخرُّب في الأعضاء، والعديدُ من الآثار الأخرى غيرِ المرغوبة.

يُعَدُّ دواءُ سيسبلاتين Cisplatin أحدَ أهمِّ الأدويةِ المُستخدَمةِ في العلاج الكيماوي، وهو يعتمد على آلية ألكلة الـ DNA؛ إذ يُسبِّبُ ارتباطُ هذا المُركَّب - عبرَ معدن البلاتين - مع الـ DNA تغيُّرًا في شكله الفراغي، وبذلك يمنعه من التضاعُف. غيرَ أنَّ الاكتشافَ الجديدَ أظهرَ أنَّ جزيئاتِ  "Cisplatin" تتداخلُ مع الـ DNA على جبهتَين جديدتَين بدلًا من جبهةِ تثبيطِ انقسامِ الصبغيَّات وحسب. وترتكز هاتان الآليَّتان الجديدتان على استهداف الـ DNA الحُرّ أو ما يُدعَى بالكروماتين وبروتيناتِ الهستون (هو البروتينُ الذي يلتفُّ عليه خيط الـ DNA. وتقولُ نظريّة مضاداتِ السرطان التي تعملُ على الـ DNA الحُر - والتي تُعَدُّ إحدى العلاجاتِ التقليدية - بأنَّها تُوقِفُ الانقسامَ المُنصِّف للـ DNA، وبذلك فهي تُوقِفُ انقسامَ الخليَّة.

وتشيرُ الرؤى الجديدةُ لهذه الدراساتِ إلى أنَّ الكروماتين "الدنا الحر" وبروتيناتِ الهستون (المسؤولةَ عن تكثيف خيوط الـ DNA) يشكّلانِ الأهدافَ المثاليّةَ للمُعقّدات المعدنية (التي تحوي عنصرًا معدنيًّا في بِنيتها تمامًا مثلَ السيسبلاتين) التي تنتمي إلى المعادن الانتقالية في الجدول الدوري، ومن ثَمَّ سيتضمّنُ العلاجُ الحديثُ العهدِ استخدامَ الأدويةِ ذاتِ الأساس المعدني والقادرةِ على الارتباطِ بالـ DNA الصبغي والكروماتين وبروتينات الهستونات على حدٍّ سواء.

ولكن؛ كيف سيساعدُ هذا التطوُّرُ في محاربةِ السرطان على نحوٍ فعَّال؟

بدايةً؛ سيؤثّر الدواءُ في الخليةِ السرطانيةِ قبلَ أن تُكثَّفَ المادة الوراثية ضمن هذه الخلية حتّى؛ (أي قبلَ تضاعُفِ المادَّةِ الوراثية)، وهذا ما يحدثُ ضمنَ الطور S من دورةِ حياة الخليَّة؛ إذ يتضاعفُ محتوى الخلية من الـ DNA  في هذا الطَّور، وتدخلُ فيه الخلية مرحلةَ العملِ المُكثَّف، وبذلكَ تعملُ هذه الأدويةُ على منع الخليةِ من الدخول في هذا الطَّورِ عبرَ تثبيطِ تضاعُفِ الـ DNA.

لقد زوَّدَ هذا الاكتشافُ العلماءَ بفرصةٍ مُهمَّة لفهمِ سببِ الآثارِ الجانبيَّةِ المُحدَثة بالعلاج الكيماوي، ثمَّ إنَّ توضيحَ آليةِ ارتباطِ الدواء بمكانٍ مُحدَّدٍ وتفعيلَه لشلَّالٍ من التفاعلاتِ الحيويّة قد فسَحَ الأفقَ لعلماءِ الخلية لأجلِ بَدءِ الدراساتِ عن أدويةٍ أقلَّ آثارًا جانبيّة، ومعظم الأدوية التي استُخدِمت في الدراسةِ المُوضَّحة سابقًا تحتوي أساسًا من معدنِ الروتينيوم.

وإضافةً إلى ذلك؛ أوضحت هذه الدراسةُ الارتباطَ الانتقائيَّ للبروتينات والـ DNA، ممَّا يُعَدُّ وسيلةً لتوسيعِ أفقِ الرؤية لدى علماءِ الخليَّة فيما يتعلَّقُ بالمحدِّدات الجزيئية للأدوية المضادَّةِ للسرطان؛ أي بمعنى تطوير أدويةٍ أكثرَ انتقائية، ومن ثمَّ أقلُّ إحداثًا للآثار الجانبية.

وإنَّ الأدوية المستخدمة في هذهِ الدراسة الحديثة هي الأدويةُ الكيماويَّةُ المُستخدَمةُ في علاجِ سرطانِ الخِصية وسرطان المبيض، وبذلك يمكننا القول أنَّه يُرجَّحُ وجودُ علاجٍ ممتازٍ لهذين السرطانَين في المستقبلِ القريب، وهذا ما نرجوه حتمًا.

المصدر:

هنا