علم النفس > الصحة النفسية

الاكتئابُ من منظورٍ مختلفٍ

الاكتئابُ مرضٌ نفسيٌّ شائعٌ كَثُرَ فيه الحديثُ وكَثُرَت عنه رسائلُ التوعيةِ أيضًا؛ لكن هل حققَت هذه الرسائلُ تقدمًا ملحوظًا؟ أو أثَّرَت في نِسبِ الإصابةِ به؟ وهل أماطَتِ اللِّثام عنه أو عن غيره من الأمراضِ النفسيِّةِ ليمشيَ المريضُ بها رافعًا رأسَه؟ ثمَّ هل جعلته يشعر أنَّ مرضَه عاديٌّ قابلٌ للعلاج، وألَّا علاقة له بالجنون؟ أو أن يصرّحَ عن مشاعرِهِ والأعراضِ التي تنتابُه بالسهولةِ التي يَعطسُ بها مريضُ الزكامِ دونَ خجلٍ منتظرًا ممن حولَه أن يُعقّبُوا على ذلك بقولِهم: (ليرحمكم الله)؟

نعم، ما زلنا بعيدِين عن هذا كلَّ البُعد؛ فنحنُ نحتاجُ - كما توصلتم معي - نظرةً أخرى؛ فكيف سيكونُ ردُّ فعلكم إذن عندما تعلمون أنَّ أحدثَ النظرياتِ التي توصَّلَ إليها علمُ النفسِ عن الاكتئابِ تقولُ أنَّ الأعراضَ التي يُعاني منها مريضُ الاكتئابِ والتي كُنَّا نسعى لمحاربتِها لا تتعدى كَونَها وسائلَ دفاعيةً للجسمِ يحاربُ بها المسبباتِ؛ ولكن كيف ذلك؟  

الدماغُ عضوٌ كغيره من أعضاءِ الجسم يتعرضُ للمرضِ أو لِهجمةٍ فيروسيّةٍ؛ فكيف لنا حِرمَانُه الحقَّ في الدفاعِ عن نفسِه أو تَجاهُلُ هذه الحقيقة؟!

في قصةِ The Yellow wall paper - قصةٌ قصيرةٌ للكاتبة الأمريكية تشارلوت بيركنز جيلمان - تُعالِج فيها صحةَ المرأةِ الجسديّةِ والعقليّةِ ونظرةَ المجتمعِ، وتبدأُ قصتَها بضميرِ المُتكلم وكأنَّها هي المريضةُ التي شُخِّصَت بالاكتئابِ العصبيِّ، ورأى زوجُها الطبيبُ الذي شَخَّصَ مرضَها أن يذهبا إلى أحدِ البيوتِ المعزولةِ لترتاحَ بعد عناءِ الولادةِ فرضخَت لرغبتِه ولازمتِ الفراشَ، وكانت غُرفتُها بالطابقِ العلويِّ ونوافذُها ذاتُ قضبانٍ حديديةٍ وجدرانُها مكسوةٌ بورقٍ أصفرَ ممزَّقٍ والأرضيةُ تكسوها خدوشٌ؛ مما جعلَ الشكَّ يساورُها بأنَّ امرأةً مثلَها كانت هناك من قبلُ.. حبيسةَ الجُدرانِ رَغمًا عن إرادتِها، وبالغَ زوجُها في عُزلتِها فأخذت تضجرُ من لونِ الحائطِ الأصفرِ، ومع مرورِ الزمنِ بدأت تتراءى لها أشباحٌ على هذا الورقِ الأصفرِ؛ وكأنَّ ثمةَ امرأةً تريدُ أن تخرجَ منه، فبدأت تساعدُ المرأةَ وتُمزِق الورقَ وتدورُ في الغرفةِ، وعندما دخلَ عليها زوجُها وهي في هذه الحالة أُغمِيَ عليه وصارت تَطأُ جَسدَه وهي تدورُ في الغرفةِ.

 

وفي فيلم Brain on Fire وهو فيلمٌ مقتبسٌ عن قصةٍ حقيقيةٍ عاشتها الصَّحفيةُ الأمريكيةُ (سوزانا كالان)، والتي تتدهورُ حالتُها النفسيةُ وتبدأَ بتخيُّلِ أشياءَ غيرِ موجودةٍ، وبعد عدَّةِ نوباتٍ يُدخِلُها أهلُها المستشفى فتُشَخَّصُ مرةً بالفُصامِ وأخرى بالهوسِ الاكتئابيِّ وثالثةً بالذُهانِ. ولكنَّ أهلَها لا يستسلمون؛ خاصةً أنَّها كانت طبيعيةً منذ طفولتِها، فماذا حدثَ الآن؟ ثمّ يطَّلِع الطبيبُ سهيل نجار على حالتِها؛ فيكتشفَ السببَ الحقيقيَّ وهو التهابُ الدماغِ، وما يَلفِتُ الانتباهَ هي العبارةُ التي يبدأُ بها الفيلم على لسانِ الصَّحفيةِ: "هل سبقَ ووجدَت نفسكَ عالقًا؟ مفقودًا من جسدِك؟ مفقودًا من حواسِك، مفقودًا في الزمنِ تُحاولُ الهَرب، تُحاولُ الخُروج"؛ عبارةٌ تلخصُ مرضَ الاكتئابِ، ويخاطبها الدكتور سهيل بعبارةٍ مشابِهةٍ: "عزيزتي أعرف أنَّك في الداخلِ وسأفعلُ كلَّ ما في طاقتي لإيجادك"؛ إذ يصفُ الطبيبُ حالتَها بعد أن طَلب منها أن ترسمَ ساعةً وتكتبُ عليها الأرقامَ من 1-12 فنجحت في رسمِ القسمِ الأيمنِ فقط وتوقفَت عن الرسمِ؛ فيقولُ: "أعتقدُ أنَّ نصفَ دماغِها الأيمنِ ملتهبٌ، وهذا الالتهابُ يجعلُ عالمَها الخارجيَّ مشوَّهًا؛ فلا أحدَ يُعاني مشكلاتٍ نفسيةً قادرٌ على رسم ساعة كهذه؛ إنَّ دماغَها يحترق؛ الجسيماتُ المضادةُ تُهاجِم مستقبلاتِ المَخِّ، ودماغُها يشتعلُ لأنَّ جسمَها يُهاجِمُه؛ سنثبتُ التشخيصَ بأخذِ خِزعةٍ من دماغِها"، ثُم تختمُ الصَّحفيَّةُ بقولها: "كم من الناسِ الذين شُخصِّوا بإصابتِهم بأمراضَ نفسيةٍ كالفُصامِ أو ثُنائيِّ القُطبِ؛ أو ببساطةِ الجنونِ؛ في حين كانوا يُعانون مِثلي التهابًا في الدماغِ قابلًا للعلاجِ".

والتعريفُ النمطيُّ للاكتئابِ - الواردُ في الدليلِ التشخيصيِّ الإحصائيِّ للاضطراباتِ العقليةِ - يتحدَّدُ في وجودِ خمسةٍ من أصلِ تسعةِ أعراضٍ نفسيةٍ وسلوكيةٍ يوميةٍ ومستمرةٍ مدةَ أُسبوعَين، وتشمل هذه الأعراضُ: (المِزاجَ المُكتئبَ والهِياجَ والتعبَ والوهنَ وافتقادَ الثقةِ بالنفسِ والشعورَ بالذنبِ والتفكيرَ في الموتِ وتغيُّرَ الشهيةِ والوزنِ وصعوباتِ النومِ وتضاؤلَ القدرةِ على التركيزِ وفقدانَ الرغبةِ بكلِّ مظاهرِ الحياةِ).

وتُظهِرُ الدراساتُ وفحصُ الدماغِ لدى مرضى الاكتئابِ اختلافًا في نشاطِ قشرةِ الفصِّ الجبهيِّ والعُقَدِ القاعديّةِ واللَّوزةِ الدماغيةِ والمِهادِ وفي نشاطِ الغددِ الصُمِّ أيضًا، وأنَّ مُثبطاتِ إعادةِ امتصاصِ السيروتونين الانتقائيِّ وما يتَّصلُ بها من مضاداتِ الاكتئابِ تُشكّل علاجًا فعالًا للحدِّ من أعراضِ الاكتئابِ. لكنَّ أحدًا لم يبحثْ في الأسبابِ؛ فكانَ العلاجُ دومًا يستهدفُ النتائجَ فقط؛ اعتمادًا على نظريةِ العُطلِ البيولوجيِّ في الدماغِ (عدم التوازن الكيماوي)، واليومَ تلوحُ في الأفقِ نظريةٌ جديدةٌ تُدعَى نظريةُ التثبيطِ السلوكيِّ والتي تَرى في الاكتئابِ إستراتيجيةً دفاعيةً متطورةً.   

وتُميِّزُ هذه النظريةُ بين الخللِ البيولوجيِّ وإستراتيجيةِ الدفاعِ؛ أيّ إنَّ أعراضَ الاكتئابِ ميزةٌ تطوريةٌ يبتكرُها الجسمُ للدفاعِ عن نفسِه؛ فعندما يُصيبُ فيروسٌ ما كالإنفلونزا الجسمَ البشريَّ تَظهرُ بعضُ الأعراضِ منها ما يُعبّرُ عن عيبٍ سبَّبه الفيروسُ الذي يحتلُ الخلايا لِيُحولَها إلى بيئةٍ ملائمةٍ لتكاثرِه؛ فتتغيرُ خصائصُها، وأخرى تُشكّل الوسائلَ الدفاعيةَ التي يَستخدِمُها الجسمُ للحدِِّ من انتشارِ الفيروسِ كالحُمَّى والسُعالِ فهما - في الواقع - وسائلُ دفاعيةٌ تطوريةٌ يَستخدمُها الجسمَ لإعاقةِ سرعةِ الفيروس وفعاليته؛ أيّ إنَّ الأدويةَ التي تُستخدَم في حالةِ الإنفلونزا لمعالجةِ السُّعالِ والحُمَّى بوصفه عيبًا في الحقيقة تُطيلُ عُمُرَ الفيروسِ في الجسمِ! وإنَّ هذا الفَهْم سيؤدِّي إلى إستراتيجية تَدَّخُلٍ عِلاجيِّ مُختلفةٍ.

ولِنفهمَ الأمرَ أكثرَ علينا أن نلقيَ نظرةً على كيفيةِ استجابةِ الجسمِ للألمِ؛ فالجسمُ لديه آلياتٌ يتعاملُ بها مع المواقفِ المفيدةِ منها ويتجنّبُ المواقفَ المُضِّرةَ؛ فالمُتعةُ تَجذبُنا والألمُ يُنفرُنا، والألمَ العاطفيُّ لا يختلفُ عن الألمِ الجسديِّ؛ إذ يُحفزُ الألمُ الكائنَ الحيَّ لتجنبِ المسبباتِ في المستقبلِ؛ فعندما نفشلُ في تحقيقِ أهدافِنا أو نفقدُ عزيزًا أو يَنتقدُنا أحدُهم؛ فإننا نفقدُ أحدَ ركائزِ بيئتِنا الاجتماعيةِ ومكانتنا أو استقلاليتنا أو تضامننا مع المجتمعِ، وهناك أنواعٌ مختلفةٌ للألمِ باختلافِ المشكلاتِ الاجتماعيةِ التي قد نتعرضُ لها، وإنَّ وجودَ مشاعرَ سلبيةً لا يدلُ بالضرورةِ على خللٍ وظيفيٍّ بيولوجيٍّ، ومن المنظورِ الدارويني يُمكنَ النظر إلى السلوك على أنه عمليةُ إنفاقٍ للطاقةِ؛ للسيطرةِ على البيئةِ لتكونَ آمنةً للبقاءِ على قيدِ الحياةِ؛ لكنَّ هذا الاستثمارَ للسلوكِ يحتاجُ إلى مواردٍ قد تكونُ نادرةً أحيانًا أو مُكلفةً، وهذا التحليلُ يُشبِه ما نسميه في الاقتصادِ نِسبةَ التكلفةِ إلى الفائدةِ؛ فالكائناتِ الحيَّةَ قادرةٌ على زيادةِ هذه النِّسبةِ إلى حدِّها الأقصى عن طريقِ زيادةِ الفوائدِ أو بتخفيضِ التكاليفِ؛ وهذا يُشبهُ إلى حدٍّ كبيرٍ ما يحدثُ في الاكتئاب.

(رُميَت فئرانٌ في الماءِ عِدّة مرّاتٍ في اختبارٍ؛ فكان ردُّ فعلها الأَولِي أن سبَحت بقوةٍ؛ لكنها مالت في المراتِ اللاحقةِ للحفاظِ على طاقتها بالعومِ وحسب بحركاتٍ طفيفةٍ تُبقيها على سطحِ الماءِ، ولو أنّها استمرَّت في السباحةِ بقوةٍ لكانَ الغرقُ مصيرَها).

إذن فكُلَّ سلوكٍ يؤدِّي إلى شعوري بالألمِ أو لا يعود عليّ بالنفع؛ لا حاجة له؛ فعندما أفشلُ على نحوٍ متكررٍ عليَّ أن أتوقفَ عن المحاولةِ لأنَّ نِسبةَ التكلفةِ إلى المنفعةِ في أسوأ حالاتِها ولا بدَّ من تخفيضِ التكاليف، وهذا يُفسرُ كثيرًا من أعراضِ الاكتئابِ، ومنها مثلًا التراجعُ والانسحابُ من المجتمع عندما يجدُ مريض الاكتئاب أنَّ في معاشرتِه للناسِ ألمًا يعودُ عليهِ بالخَسارةِ والإجهادِ، وهذا يُفسرُ وجودَ أعراضٍ مختلفةِ الشدةِ تتراوح من المنخفضةِ إلى المزمنةِ والشديدةِ إلى اضطراباتِ التكيفِ إلى الحالةِ المِزاجيةِ المنخفضةِ، وتتميزُ هذهِ النظريةُ بربطِها للأسبابِ (المحفزات) بالتأثيراتِ (الأعراض) بتسلسلٍ منطقيِّ.

إنَّ هذهِ النظريةَ ستُوجِه الأنظارَ أكثرَ إلى البيئةِ الاجتماعيةِ المُحيطةِ بالمريضِ عِوضًا عن معالجةِ الآثارِ على المريضِ أو علاجِ الأعراضِ بوصفه مرضًأ دونَ البحثِ عن المُسبباتِ، وأن ننظرَ إلى الاكتئابِ من منظورٍ آخر هو أمرٌ قد يُساهمُ في علاجه؛ إذ تُساعدُ هذه النظريةُ على التنبؤِ بالمُؤثراتِ التي تَزيد حالة المريض سوءًا أو تتنبأ بتصرفاتِه وبطريقة التدخل أيضًا.

ونختمُ القولَ بافتتاحيةٍ لقصيدةٍ شهيرةٍ بعنوانِ Sea Breeze :"الجسدُ حزينٌ .... وقد قرأتُ جميعَ الكتب"

ربَّما يكونُ بحثُنا المبالغُ به عن السعادةِ هو ما يصيبُنا بالاكتئابِ لأنَّ التكاليفَ باهظةٌ والفائدةُ بعيدةٌ! وخصوصًا بعد انتشارِ كثيرٍ من الكُتبِ بعناوينِها العريضة، والتي تَعِدُ بإستراتيجياتٍ لا يُمكنُ الاستغناءُ عنها لتحقيقِ السعادةِ؛ ولهذا ربما يَصلُ الاكتئابُ إلى مستوياتٍ وبائيةٍ في أمريكا وغيرها؛ نتيجةَ النمطِ الاجتماعيِّ الإعلانيِّ والمبالغُ به عن السعادةِ.

وهنا نَستخدمُ (ربَّما) لأنَّ الأمراضَ النفسيةَ ما زالت تحتملُ الشكَّ ولا أمرَ قطعيٌّ فيها.

المصدر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا