الفيزياء والفلك > فيزياء

التشابُك الزمنيُّ الكُموميُّ - الجزء الأول -

يُحاوِلُ علماءُ الفيزياءِ الكوانتيَّة توسِعةَ مفهومِ التَّشابكِ الكمِّي ليؤدِّي الزمنُ فيه دورًا، فيزيدَ ذلك من غرابتِهِ غرابةً.

وذاتَ يومٍ؛ عثَر أحدُ عمّالِ البِناءِ في معهدِ ماساتشوستس للتكنولوجيا MIT على كَبسولةٍ زمنيّةٍ قبلَ 942 سنة من تاريخِ فَتحِها، إذ دُفنت عامَ 1957 ويُفتَرَضُ فتحُها عام 2957، وهي أُسطُوانةٌ زجاجيّةٌ عُبِّئت غازًا خاملًا من أجلِ حفظِ مُحتوياتِها، ورُبِطَت بأشرطةٍ مصنوعةٍ من (الكربون14) ليتمكَّنَ الباحثون في المُستقبلِ من التَّحقُّقِ من عُمرِها بطريقةِ التَّحقُّقِ نفسِها من عُمر الأحفوريّات.

وقد أصلَحَها علماءُ المعهدِ وأعادوا خَتمَها ودَفنَها من جديد، ولكِنْ؛ هل من طريقةٍ أُخرى تُؤكِّدُ أنَّ هذه الكبسولَةَ لن تُفتَح قبل موعِدِها؟ تقدِّمُ فيزياءُ الكمِّ لنا طريقةً جديدةً باستخدامِ ظاهرةٍ كُموميَّةٍ تُسمَّى التَّشابُك هنا الزَّمنيّ. 

في عام 2012؛ اقترح عالِمَا الفيزياء Jay Olson و Timothy Ralphh من جامعةِ كوينزلاند في أستراليا أنَّ هُناك طريقةً لتَشفيرِ البياناتِ لاستحالَةِ فَكِّ التَّشفيرِ إلاَّ في موعدٍ محدَّد، وذلك باستخدامِ التَّشابُكِ الكُموميِّ الزَّمنيِّ!

إذ تَحدُثُ ظاهرةُ التَّشابُكِ عندما يكونُ لدينا جُسَيمَينِ أو نُقطتينِ في حقلٍ ما (مثل الحقلِ المِغناطيسيِّ)، ويَمتلكُ كلٌّ منهما هُويّةً مُنفصلةً، ولكنَّ خصائِصهما مُرتبطةٌ بعضهما مع بعضٍ، وعادةً يَذكُر العُلماءُ هذه الارتباطات ضمنَ المجالِ المَكانِيِّ، فهي لا تَخضعُ لشروطِ (المكانيِّة)، وقد عبَّر عنها آينشتاين بمصطلحِ (التأثيرِ الشَّبَحِيِّ عن بُعد)، ولكن يزدادُ الحديثُ اليوم عن احتماليةِ حدوثِ هذه التَّشابُكاتِ الكُموميَّة في الزَّمان أيضًا.

ويرى العُلماءُ أنَّه قد يكونُ لهذه الظّاهرةِ دورٌ كبيرٌ في تَسريعِ الحواسيبِ الكُموميَّة، وتحسينِ أنظمةِ التَّشفيرِ الكُموميَّة، والأهمُّ من ذلك؛ طرحُ طريقةٍ جديدةٍ لتوحيدِ النَّظريَّةِ الكُموميَّةِ مع النَّظريَّةِ النِّسبيَّةِ لآينشتاين والحصولِ على النَّظريَّةِ المُوحَّدةِ التّي تَصفُ لنا الكون.

كيف يَعملُ التَّشابُك الكُموميُّ الزَّمنيّ؟

لكي نَفهمَ التّشابُك الكُموميَّ في الزّمن؛ علينا فَهمُ التَّشابُك الكُموميَّ في المكان أيضًا، فلْيَكُن لدينا جُسَيمينِ مُتشابِكَينِ كُموميًّا؛ فوتونين مثلًا، ويُرسَلُ كلُّ واحدٍ منهما باتِّجاهٍ مُختلف؛ فالمُراقِبةُ الأولى (ولنُسَمِّها سلوى) سوف تَقيسُ استقطابَ الفوتونِ الأول، وزميلُها المُراقبُ الثَّاني (واسمه باسل) يقيسُ استقطابَ الفوتونِ الثّاني، فيستطيع كلٌّ من (باسل) و(سلوى) قياسَ استقطابِ الفوتون بالمحورِ العموديِّ أو الأفقيِّ أو المائل، أيَّها اختارَا فالخياراتُ غير محدودة.

** ملاحظة: (باسل) و(سلوى) مقابِلان عربيان ل Alice و Pop وهما أجهزةٌ وحسّاساتٌ يستخدِمُها العُلماءُ في المخابرِ لرَصدِ هذه الظّواهِر، ولكن صُوِّرَت على شكلِ أشخاصٍ من أجلِ تقريبِ الفكرةِ إلى ذهنِ القارئ.

وعندَ دراسةِ نتائج قياساتِ كلٍّ من (باسل) و(سلوى)؛ نلاحظُ أنَّ هذه النَّتائِجَ متطابِقةٌ أيًّا يكنْ محور القياسِ المُختار، وكأنَّ الجسيمَ الذي درسَتْه (سلوى) يعلمُ (لحظيًا) بحالةِ الجُسيمِ الذي يدُرسُه (باسل)، والعكس صحيحٌ. وهذا التّطابقُ في النّتائجِ سوف يستمرُّ أيًّا كانت المسافةُ بين الجسيمين. وهذا تعدٍّ صارخٌ على قاعدةِ (المكانيّةِ)؛ وهي القاعدةُ التي تقولُ بأنَّ كل نتيجةٍ لها سببٌ، وأنَّ سلسلةَ (السّبب والنّتيجة) يجبُ أن تَستمرَّ ضمنَ الزَّمانِ والمكانِ دون أن تتحطَّمَ.

في حالةِ الزَّمانِ يكونُ الوضعُ أكثرَ غموضًا، إذ لدينا فوتونًا واحدًا فقط، تبدأ (سلوى) بعمليّةِ القياسِ، ثُمَّ  (باسل) بعد فترةٍ من الزّمن؛ أي إنَّنا استبدلنا المسافةَ في المكانِ بالمدّةِ من الزّمن، فإنَّ احتمالَ ظهورِ نتيجةِ القياس ذاتِها يختلفُ حسبَ الزَّاويةِ بين الأقطاب، وحقيقةً يختلفُ بالطريقةِ نفسِها عندما يكونُ التَّشابُك مكانيًّا، وهذا ليس غريبًا إطلاقًا؛ لأنَّ ما نفعلُه في البِدايَةِ سوف يؤثِّرُ على ما سوف نفعله لاحقًا، فيستطيعُ الجسيمُ التّّواصُلَ مع نفسِهِ عبرَ الزّمن.

وتكمنُ الغرابةُ في تجرِبةٍ أجراها العالِمُ Robert Spekkenss - وهو فيزيائيٌ يَدُرسُ أساسياتِ ميكانيك الكمِّ في معهد بريمتير للفيزياء النَّظريَّة في واتراو في كندا - مع زملائِه في عام 2009، ودون سردِ التَّفاصيلِ التِّقنيَّة للتَّجرِبة، فإذا كان لدينا فوتونٌ نريدُ قياسَه وترتيبُ التّجربة ينصُّ على أنْ تبدأَ (سلوى) بعمليّةِ القياسِ ومن ثَمَّ يأتي دورُ باسل؛ فسوفَ تستطيعُ سلوى القياسَ بطريقتَين، وكلُّ طريقةٍ منها تُعطي احتمالَين؛ أي إنَّ (سلوى) تملِكُ أربعة احتمالاتٍ للإجابة، وأمَّا (باسل) فلَديهِ طريقةُ عملٍ مُختلفة؛ فإذا اختارَ (باسل) القياسَ بالطريقةِ الأولى لـ (سلوى) سَيحصلُ على إجابةِ (سلوى) ذاتِها بالطريقةِ الأولى، والشّيء ذاته إذا اختارَ القياسَ بالطَّريقةِ الثَّانية لـ (سلوى)، وهنا تكمُنُ الغرابةُ؛ لأنَّه من المفترضِ ألَّا يكونَ (باسل) على علمٍ بالطريقةِ التي اختارَتها (سلوى)، فالتَّفسيرُ الوحيدُ لهذه الحالةِ؛ أنَّ الفوتونَ يعلمُ الطريقةَ التي سيختارها (باسل) في المستقبلِ وتصرَّفَ على هذا الأساس، وكأنَّه أنجزَ عمليّةَ (سفرٍ في الزّمن) إلى اللَّحظةِ التّي يلتقي فيها مع (سلوى)!

وفي عام 2015؛ أجرى العالِمُ Stephen Brierleyy - وهو عالِمٌ في الفيزياء الرِّياضيَّة في جامعة كامبردج - مع زملائِه تجرِبةً أخرى أكثرَ تعقيدًا على فوتوناتٍ مُتشابكةٍ، وخلَصَ في تجرِبتِه إلى أنَّه لو اختارَ كلٌّ من (باسل) و(سلوى) قياسَ الفوتون وفقَ محورَين فقط فإنَّهما سيحصلان على نتائجَ متناسِقةٍ مع فكرةِ أنَّ الفوتونَ يَنقلُ معلومةً واحدةً محددة، ولكن؛ إذا قرَّرَ كلٌّ من (باسل) و(سلوى) قياسَ الفوتونِ بثمانيةِ اتجاهاتٍ مختلفة فإنَّ النَّتائجَ لا يُمكنُ تفسيرُها وِفقَ قوانينِ الكمِّ؛ وبالمختَصر؛ فقد بَدا للعُلماء أنَّ التَّأثيرَ الذي تؤدّيه (سلوى) في الفوتون مرتبِطٌ بما يراه (باسل) بطريقةٍ غامضةٍ لا يمكنُ تفسيرُها بسهولة.

 

وقد فسَّر ذلك بعضُ العُلماء بأنَّ (سلوى) عندما عملت على قياس الجُسيم (الفوتون) فإنَّها قد غيَّرت من خصائِصِه، ومن ثمَّ فقد أثّر هذا التّغييرُ على القياساتِ التي أخَذَها (باسل) لاحقًا، وفي هذه الحالةِ سوف نتمكَّنُ من التَّنبُّؤ بالنَّتيجةِ لمعرفتنا السَّبب.

ولكنَّ السؤالَ؛ لماذا تُنتِجُ هذه الجسيماتُ تلك الارتباطاتِ الزمنيَّة القويَّة؟ فتُجيبُك الفيزياء؛ أنَّ السَّبب هو (السَّبب)!

ولكي نستكملَ الفكرة انتظروا تتمَّة القصة في الجزء الثاني من المَقال، والتي سنتحدث فيها عمَّا يُسمَّى بالكبسولاتِ الكُموميَّة الزمنيَّة.

المصادر:

1 - هنا

2 - هنا