الطب > مقالات طبية

اللَّحنُ المؤلِم

قد تسبِّبُ الفتراتُ الطويلةُ من التدريب على الآلاتِ الموسيقيةِ والوضعيَّاتُ اللازمة للعزف عليها بعضَ الاضطراباتِ الصحيَّة، ويخضعُ الموسيقيُّ للعديد من الضغوطِ الناجمةِ عن سعيه لإرضاء ذاته ومُدرِّسه والحضور.

وتمثّلُ الاضطرابات الحركية عند الموسيقيين - ولا سيَّما الاضطراباتُ العضلية الهيكلية - أكثر الحالاتِ ملاحظةً، وتتظاهرُ أعراض هذه الاضطرابات عمومًا بآلامٍ في اليد والمعصم والذّراع والكتِف والعمود الفقري، أو في عدَّةِ مواقعَ مُجتمِعةً، ويمكنُ أن تتضمَّنَ هذه الشِكاياتُ السريريَّةُ الألمَ الموضَّع أو الضعف، وفقدان السرعة، وانخفاضًا في الدقة، وتورُّمًا، ونقصًا في نطاقِ الحركة والاكتئاب.

سنتعرّف فيما يأتي على أكثر الاضطرابات الصحية شيوعًا عند الموسيقيين:

متلازمةُ النَّفَق الرَّسغي Carpal Tunnel Syndrome: تُسبِّبُ هذه الحالة التنميلَ والوَخزَ في كلٍّ من  اليد والذراع، وتحدثُ نتيجةَ انضغاط عصبٍ في نفقِ الرسغ (وهو ممرٌّ ضيقٌ موجودٌ في الجانب الراحي من المعصم).

متلازمة الإفراط المهنية Occupational Overuse Syndrome OOS: سُجِّلت معظمُ الإصابات المرتبطةِ بالأداء عند الموسيقيين بوصفها إصاباتٍ ناتجةٍ عن الإفراط في التدريب؛ إذ وجدتِ الدراسات ارتباطًا بين الأعراض وشدَّةِ التدريبات، وتتجلَّى هذه المتلازمة بِـ : ألمٍ وضعفٍ وظيفيَّين موضعيَّين في العضلاتِ والأربطةِ المفصلية ناتجَين عن زيادةٍ في مُدَّةِ التدريب وشدَّتها، ويرتبطُ موقعُ المتلازمة بنوعِ الآلة الموسيقية.

متلازمةُ مخرَجِ الصدر TOS) Thoracic outlet syndrome): مجموعةٌ من الاضطرابات التي تحدثُ عند انضغاط الأوعية الدموية أو الأعصاب في الفراغ بين عظم التُّرقوة والضلع الأول؛ أي عند مخرج الصدر، ممَّا يُمكِنُ أن يُسبِّبَ الألمَ في الكتفَين والعنق، أو التنميلَ في الأصابع.

تختلفُ أنماطُ الاضطراباتِ الصحية وشدتها بحسبِ الآلةِ الموسيقيةِ ومتطلَّباتِ الحركة والسكون فيها:

الآلاتُ الوتريَّةُ String Instruments:

مثل الكمان والتشيلُّو والغيتار: غالبًا ما تكون الطريقة التي تُحمَل بها الآلةُ هي سبب الاضطرابات الصحية التي تصيب الموسيقيين؛ فعندَ العزفِ على (الكمان) -مثلًا- تُحمَل الآلة بين الكتِفِ والفكّ؛ إذ يُرفَعُ الكتف فتراتٍ طويلةً مع انحناءِ الذقن والفك باتجاه الأسفل على الآلة، وتحرِّضُ هذه الحالة من الانكماشِ الثابت ألمَ الأليافِ العضليةِ في الرقبة، وقد تسبب حدوثَ متلازمة مخرَج الصدر TOS، فضلًا عن أنَّ النظرَ إلى الأصابع في أثناء العزف قد يزيد من الضغط المتولِّدِ على الرقبة.

أمَّا عضلاتُ المعصم والساعد فتُستخدَمُ لإنتاج النوتات الموسيقية والاهتزازات، و يُثنى المعصم غالبًا لتطبيقِ الضّغط على الأوتار، وهذه هي الوضعية النموذجية لتحريض حدوثِ متلازمة النَّفَق الرسغي.

آلات المفاتيح Keyboard Instruments :

يتطلب العزف على آلةٍ مثلَ البيانو وضعيةً مشابهة لوضعية الكتابةِ على لوحة المفاتيح؛ إذ يوجَّهُ الرأسُ إلى الأمام والأسفل للنظرِ إلى المفاتيح واليدَين والنوتات الموسيقية، ممَّا يُسبِّبُ ألمًا في الألياف العضلية للرقبة والظهر. وتحفِّزُ وضعيةُ الأكتاف وانحناءِ الرأس للأمام -إضافة إلى بعض أنماط التنفس غير المناسبة- حدوثَ متلازمة مخرج الصدر، فضلًا عن أنَّ عزفَ أوكتافات مُتكرِّرة وكوردات كبيرة يتطلَّبُ تمدُّدًا كبيرًا بين الإبهام والبنصر يُولِّدُ ضغطًا على محفظة مفصل المعصم، ما قد يسبب تشكُّلَ الأكياس الزُّلالية.

آلات النفخ الهوائية Wind Instruments:

يمكن أن تسببَ وضعيّةُ العازف ألمًا في الألياف العضلية للرقبة والظهر والتهابًا للأوتار، وإضافة إلى ذلك فإنَّ متطلباتِ التحكُّم بتدفُّقِ الهواء وتنسيقِ حركات الأصابع مع الضغطِ الناجم عن الأداء الموسيقيّ يُمكِنُ أن تؤدّي إلى حدوثِ متلازمة مخرَج الصدر، وقد يطرأُ ضررٌ على العصبِ الزندي.

الآلات الإيقاعية Percussions:

قد يؤدّي استخدامُ العِصيّ أو المطارق أو اليدَين لضرب الآلات الإيقاعية المختلفة إلى مشكلاتٍ في كلٍّ من عضلاتِ اليد والساعد وأوتارِهما، إضافةً إلى إمكانيَّةِ حدوث التهابٍ في غمد الوتر.

ويمكن أن نقسم عوامل الخطورة التي تُعرِّض الموسيقيّ لخطر تطوُّرِ هذا النوع من الاضطرابات الصحية إلى:

- عوامل داخلية أو ذاتية: وهي عوامل لا يستطيع الموسيقيُّ أن يتحكَّمَ بها أو يغيّرَها مثل العمر، والجنس، والحجم، والقوة، والمرونة...

- عوامل خارجية: وهي عواملُ متغيّرةٌ يستطيعُ الموسيقي تغييرَها والتحكُّمَ فيها إلى حدٍّ ما، مثل تكرار الحركات، ومدّة العزف وشدته، والتقنية، والوضعيّة، وصعوبة المعزوفة الموسيقية ....

وإنَّ أيَّ تغيير يطرأُ على أحد هذه العوامل أو على مجموعةٍ منها - كتغيير التقنية أو تغيير الآلة؛ إضافةً إلى تحضير مقطوعة جديدة صعبة أو اتباع جلساتِ تدريبٍ طويلة - يُعَدُّ من أهم العوامل المؤهِّبة لحدوث هذه الاضطرابات الصحية.

العلاج:

يتردَّدُ معظم الموسيقيين في طلبِ الرعاية الطبية عند الإصابة، وذلك لقلَّة مختصِّي الإصاباتِ المرتبطة بالموسيقا من جهة؛ ولإيمانِ الموسيقي بمبدأ "No pain – No gain" (لا ألمَ إذًا لا مكسَب) من جهةٍ أخرى، إذ يعتقدُ بعضُهم أنَّ شعورهم بالألم ليسَ سوى دليلٍ على صحة التدريب، وأنّ النجاح غيرُ مُمكِن دونَ هذا الألم، ويعتقدون أنَّ الألم سيزول من تلقاء نفسه أيضًا، فضلاً عن تخوُّفِ بعضِهم من إمكانية تطلُّبِ العلاجِ التوقُّفَ المؤقَّتَ عن التدريب، ومن ثَمَّ انقطاع الدّخل أو الوظيفة.

يرتكز العلاج على العديد من المحاور، أهمُّها:

الراحة: إذا كان التدريبُ على عزف آلة موسيقية يُسبِّبُ الألم فَعلى العازف أن يرتاحَ مؤقّتًا وأن يجد طريقةً لإتمام التمرين بأقلّ ألم؛ كتعديلِ وضعيته على سبيل المثال، وإذا استمرَّتِ الأعراضُ أو ازدادت فحينها يجبُ طلبُ المساعدة الطبية؛ وذلك للحدِّ من الإصاباتِ العصبية العضلية المحتملة. وينصَحُ بتجنُّبِ الراحة المطلقة، وغالبًا ما توصَفُ الراحةُ النسبيّة والتي يمكنُ أن تشملَ التثبيت بواسطةِ جبيرة. ولكن؛ نظرًاً إلى عدم استعدادِ معظم الموسيقيين لأخذِ قسط من الراحة؛ سواءٌ كانت مطلقة أم نسبية؛ يجب توفيرُ البدائل وتشجيعُ الموسيقيِّ على اتباعها، ومن أهمّ هذه البدائل: التدريب الذهني الذي يشملُ التصوُّرَ والقراءة البصرية والتي وُثِّقت بوصفها طرائقَ فعَّالة.

العلاجُ الفيزيائي: تعدّ طرائق العلاج الفيزيائي التقليدية من محاورِ العلاج المهمّة، وخاصة في المراحل الأولى؛ لتخفيف الحالة الالتهابية.

تقييم الوضعية: مثلما تُحلَّلُ طريقةُ لعب الرياضي في حال تعرُّضه للإصابة؛ تُحلَّلُ طريقة عزف الموسيقيّ؛ إذ يجب أن تُقيَّمَ آلية العزف على الآلة لأجل تحسين المهارات، والوقاية من الإصابة، وذلك بفحصِ الموسيقيّ في وضعيات الجلوس والوقوف؛ مع الآلة الموسيقيّة أو دونها.

وقد يُوصَى بوضع الثلج على منطقة الإصابة أيضًا، إضافة إلى الراحة، وقد يفيدُ تطبيق بعضِ الضغط على المنطقة، كما هي الحال في الإصابات الناجمةِ عن ممارسة الرياضة.

وقد تفيد بعض الأدوية كمضادَّاتِ الالتهاب غير الستيروئيدية NSAIDS في بعض الحالات الالتهابية، وقد يُلجَأُ إلى التداخُل الجراحي في بعض المراحل المتقدِّمة - وبعد فشل أساليب العلاج الأُخرى كما في حالة متلازمة النفق الرسغي - وهذا ما يؤكِّدُ أهميَّةَ الانتباهِ إلى هذه الحالات أبكرَ ما يمكن، وطلبِ المساعدة الطبية المختصة عند استمرار الأعراض أو تفاقمها كما ذكرنا آنفًا؛ فالطبيبُ هو القادر على تحديد العلاج المناسب.  ويجب تثقيف الموسيقي بأهمية طلب الرعاية الصحية وعدمِ إهمال الألم واتّباع طرائق التدريب الصحيحة أيضًا؛ للوقايةِ من الإصابات.

أهمُّ النصائح للوقاية من الاضطرابات الصحيّة عند الموسيقيين:

-لا تُغفِل أهميَّةَ الإحماء على نحوٍ كافٍ، وابدأ التدريبَ بالموسيقا الأبطأ.

-اتَّبِع نظامَ التدريب المُجزَّأ مع أخذ استراحات متكررة كلَّ 25 دقيقة.

-اختر وضعيَّةً صحيةً وملائمةً لجسدك في أثناء العزف؛ مُراعيًا كلًّا من حجمك وحجم الآلة، ولا تُغفلِ المعوقات الجسدية عند اختيارك للمقطوعات مثلَ صغر حجم اليد.

-تجنَّبِ المبالغةَ في التمرين، واستبدل بذلكَ التمرينَ الذهنيّ.

-لا تتجاهلِ الألم وتحذيراته، وخذ استراحةً مدةَ ساعة ونصف.

-تدرَّب بصورة مُنتظَمة، ولكن تَجنَّبِ التدريب عندما تكون مُتعَبًا للغاية؛ عزيزي الموسيقيّ.

-عُدْ إلى التدريب تدريجيًّا بعدَ العُطَلِ والإجازات.

-أعطِ نفسكَ فترةً للتأقلم عند تغيير الأستاذ أو تغيير المقطوعة أو تقنيَّةِ العزف.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا