الاقتصاد والعلوم الإدارية > اقتصاد

أثرُ البلوكتشين (Blockchain) على النظامِ الماليّ

عامَ 1990 سَخِرتِ الصِحافةُ منْ Nicholas Negroponte عندما تنبأَ بأنَّ الناسَ قريبًا سوفَ ينتقلونَ لقراءةِ الأخبارِ على الإنترنت بدلًا من الصحفِ؛ فحتى بعدَ سنواتٍ عديدةٍ منَ انتشارِ الإنترنت؛ اعتقدَ كثيرون أنَّه لا يزالُ مجردَ بدعةٍ؛ لكن سرعانَ ما أحدثَ الإنترنت بعدَ انتشارِه تأثيرًا كبيرًا في حياتنا ابتداءً من طريقةِ شرائِنا للسلعِ والخدماتِ وطريقةِ تواصلِنا مع الأصدقاءِ والعائلةِ وحتى تأثيرَه على الأحداثِ السياسيةِ الأخيرةِ.

يا تُرى هلْ سنرى بالطريقةِ ذاتِها في العقدَين القادمَين تأثيرًا مماثلًا "للعملاتِ المشفرةِ" cryptocurrencies و"البلوكتشينز" blockchains؟ بالطبعِ يوجدُ بعضُ أوجهِ التشابهِ؛ من ناحيةٍ - كما هو الحالُ بالنسبةِ للإنترنت - فإنَّ العملاتِ المشفرةَ "كالبيتكوين" Bitcoin مدفوعةٌ  أساسًا من قَبلِ التقدمِ الحادثِ في التكنولوجيا الأساسيةِ جنبًا إلى جنبٍ مع بنية جديدة ومفتوحة هي "بيتكوين البلوكتشين" Bitcoin blockchain. أيضًا كما الإنترنت فقد صُممَتْ هذه التكنولوجيا لتكونَ لامركزيةً مع "طبقات" layers، وتكونُ كلُّ طبقةٍ مُعرَّفةً من الأعلى ببروتوكول تشغيلٍ بينيٍّ مفتوحٍ إذ تستطيعُ الشركاتُ - وحتى الأفرادُ - بناءَ المنتجاتِ والخدماتِ عليها، ومن ناحيةٍ أخرى؛ فقد ظهرتِ العديدُ من التقنياتِ المنافسةِ خلالَ مراحلَ تطورِه الأولى؛ لذلكَ من المهمِّ أنْ نُحددَ عن أي تقنيةِ بلوكتشن نتحدثُ.

وأخيرًا؛ فإنَّ تقنيةَ البلوكتشن - كما هو الإنترنت - تكونُ أقوى عندما يَستخدِمُ الجميعُ الشبكةَ ذاتَها، وهو أمرٌ متوقعُ الحدوثِ في المستقبلِ.

والتطبيقُ القاتلُ "killer app" والذي يُقصَد به التطبيقُ الجوهريُّ المرافقُ لتقنيةٍ معينةٍ؛ والذي يجعلُ هذهِ التقنيةَ شائعةً ومتبناةً على نحوٍ واسعٍ البريد الإلكتروني بالنسبة للإنترنت؛ فهذا التطبيقُ هو الذي ساهمَ في تعزيزِ قوةِ الشبكةِ، وكذلك فإنَّ التطبيقَ القاتلَ بالنسبةِ للبلوكتشين هو البيتكوين؛ فالبيتكوين ذاتُ المجتمعِ التقنيِّ القوي تجعلُ من تقنيةِ بيتكوين بلوكتشين أكثرَ أمانًا وموثوقيةً من تقنياتِ بلوكتشين الأخرى، وهو ما سيُعززُ تَبنِي هذهِ التقنيةِ وانتشارَها.

ويُمكنُ النظرُ إلى البيتكوين بوصفهِ صورةً مصغرةً لكيفيةِ عملِ نظامٍ ماليٍّ جديدِ، آليِّ وَلامركزيِّ؛ فعلى الرَّغم منْ أنَّ إمكانياتِها الحاليةَ لا تزالُ محدودةً؛ فحجمُ التعاملاتِ بها لا يزالُ مُنخفضًا مقارنةً بأنظمةِ الدفعِ التقليديةِ، لكنها تُوفرُ رُؤيةً مُقنعةً لمُستقبلٍ مُحتمَلٍ، إذ تَصفُ شيفراتُ البيتكوين نظامًا تنظيميًا واقتصاديًا معًا؛  فمثلًا؛ ينبغي أن تَستوفِي المعاملاتُ شروطًا معينةً قَبل أنْ تُقْبَلَ في البيتكوين بلوكتشين؛ فبدلًا من كتابةِ القواعدِ وتعيينِ هيئةٍ تنظيميةٍ لمراقبةِ الانتهاكاتِ - كما هو الحالُ في النظامِ الماليِّ المعمولِ به حاليًا - تضعُ شيفراتُ البيتكوين القواعدَ كما تتأكدُ الشبكةُ من امتثالِ هذه القواعدِ، وعندما تَخرقُ معاملةٌ ما القواعدَ؛ كأن لا يكونُ التوقيعُ الرقميُّ مسجلًا مثلًا؛ تُرفَضُ هذهِ المعاملةُ منَ الشبكةِ.

ولعملةِ البيتكوين قواعدُ نقديةٌ صارمةٌ مشابهةُ لقاعدةِ الذهبِ وهي مكتوبةٌ في شيفرتها؛ فالعرضُ محدودٌ ولا يمكنُ أنْ يتجاوزَ الـ21 مليون بيتكوين أبدًا، وفي الحقيقةِ؛ فإنَّ الاقتصاديينَ ينتقدونَ هذهِ القواعدَ النقديةَ الصارمةَ، كما يَرى المحامونَ أنَّ تنظيمَ المعاملاتِ من خلال الشيفراتِ وحدَه غيرُ مرنٍ ولا يسمحُ بالاستفادةِ من التقديرِ العقلانيِّ المُفيدِ.

لكنْ بجميعِ الأحوالِ؛ فإنَّ البيتكوين أصبحت حقيقةً تعملُ، وظلت البلوكتشين الخاصةُ بها مرنةً ضدَّ الهجماتِ ولا تزالُ تُوفرُ نظامَ دفعٍ أساسيٍّ وقوي.

هلِ الوقتُ لا يزالُ مبكرًا جدًا؟

لسوءِ الحظِ؛ فإنَّ ندرةَ المُستثمرِين في الماليةِ التقنيةِ تجعلُ الطريقَ طويلةً أمامَ تطويرِ تقنيةِ البلوكتشين، وعادةً أصبحنا نرى ما يدَّعونَ أنَّها بلوكتشينز؛ لكنها في الحقيقة لا تتعدى كونَها قواعدَ بياناتٍ قديمةً خاليةً من الابتكارِ يُطلقُون عليها اسم بلوكتشين لأجلِ القفزِ على عربةٍ طنانةٍ فقطْ.

وبالعودةِ للمقارنةِ بالإنترنت؛ فقد كانَ هناكَ العديدُ من اللاعبينَ ما قبلَ الإنترنت بوصفِهم مشغلي الاتصالاتِ وشركاتِ الكابل، والذينَ حاولوا توفيرَ وسائطَ متعددةٍ تفاعليةٍ عَبْرَ شبكاتِهم؛ لكنَّ أيًّا منها لم يستطعْ تقديمَ شيءٍ يُذكَرُ، وقد نشهدُ اتجاهًا مماثلًا لتكنولوجيا البلوكتشين؛ فالمشهدُ الحاليُّ هو مزيجٌ من المؤسساتِ الماليةِ القائمةِ التي تُقدِمُ تحسيناتٍ تدريجيةً، ومؤسساتٍ جديدةً تُحاولُ العملَ بأحدثِ البِنى التحتيةِ المتوفرةِ والمتغيرةِ باستمرارٍ.

والنظامُ الماليُّ الحاليُّ معقدٌ جدًا، وهذا التعقيدُ يخلِقُ مخاطرَ عديدةً؛ ولذلك فإنَّ إنشاءَ نظامٍ ماليٍّ جديدٍ لامركزيٍّ معَ العُملاتِ المُشفرةِ؛ يُمكنُ أنْ يجعلَ الأمورَ أبسطَ بكثيرٍ بإزالةِ طبقةِ الوسطاءِ من المُعاملاتِ الماليةِ؛ كما يُمكنُ أنْ يُوفرَ الضماناتِ ضدَّ المخاطرِ ويفتحَ المجالَ أمامَ أنواعٍ مختلفةٍ من المُنتجاتِ الماليةِ، ويُمكنُ أنْ تُخفضَ العملاتُ المشفرةُ من عوائقِ الدخولِ إلى النظامِ الماليِّ أيضًا مما يُتيحُ الفرصةَ لدخولِ أشخاصٍ مستبعدِين حاليًا، وهو ما سيعززُ المنافسةَ؛ إضافةً إلى إمكانيةِ تخفيضِ المخاطرِ النظاميةِ التي يُعاني منها المُستخدِمون والمُنظمِون نتيجةَ التعتيم في النظامِ الماليِّ الحاليِّ وعدمِ شفافيته؛ فقد أشارَ الباحثونَ إلى أنَّ ازديادَ الشفافيةِ يُخفَّضُ من سلاسلِ الوسطاءِ وكذلك التكاليفُ التي يَتحمَّلُها المُستخدِمين للنظامِ الماليِّ.

الخلاصة

إنَّ الاستخدامَ الرئيسَ والقِيمَ التي يَحملُها الأشخاصُ الذين يَستخدِمون التكنولوجيا والبِنى التحتيةَ الحديثةَ تميلُ إلى التغير جذريًا معَ نضوجِ هذهِ التقنياتِ، وهذا بالتأكيدِ سيكونُ الحالُ معَ تكنولوجيا البلوكتشين أيضًا.

ويَرى كثيرونَ أنَّ تِقنيةَ البلوكتشين والماليةَ التقنيةَ سوف تُؤثِرُ على النظامِ الماليَِ بالطريقةِ ذاتِها التي أثَّر بها الإنترنت في شركاتِ الإعلامِ وشركاتِ التسويقِ، وما سينتجُ عن ذلكَ من إعادةِ هيكلةٍ أساسيةٍ لجزءٍ رئيسيِّ من الاقتصادِ ألا وهو النظامُ الماليُّ، والذي سيُشكلُ تحديًا كبيرًا للشركاتِ القائمةِ التي تجني أرباحَها من هذا النظامِ؛ كما ينبغي التحضيرُ والاستعدادُ لهذهِ التغيراتِ المُهمَّة بالاستثمارِ في البحثِ والتجريبِ؛ فهؤلاءِ الذينَ يفعلونَ ذلكَ سيكونونَ في وضعٍ يُؤهلُهم للازدهارِ عندَ نشأةِ النظامِ الماليِّ الجديدِ.

المصدر: هنا