الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

العلمانية الفرنسية الجزء الثاني

تحدّثنا في الجزءِ الأوّل عن تاريخِ العَلْمانيّة في فرنسا، وأنّ أهمَّ مبدأٍ للعَلْمانيّة في فرنسا يُكرَّسُ في قانون 1905 هو فصلُ الكنيسةِ عن الدولةِ، فَالعَلْمانيّة لا تعترفُ بأيِّ ارتباطٍ بينَ الدين والسياسة، وترفعُ أيّة ولايةٍ دينيّةٍ أو أخلاقيّةٍ للحكوماتِ على الشّعوبِ، فَالمواطنونَ أحرارٌ في اختيارِ دينهم أو معتقداتهم، فلا طعماً ولا رائحةً دينيّةً أو أخلاقيّةً للحكوماتِ في ظلِّ العَلْمانية، فالمُؤمنُ والمُلحدُ مواطنانِ يتمتعان بالحقوقِ نفسها وعليهما الواجبات نفسها.

التعليمُ الفرنسيّ في زمنِ العَلْمانية:

تُعدُّ رابطةُ التّعليمِ من بينِ الجمعيات المدنية الأكثر تأثيراً على العلاقات بين الدولة والدين في فرنسا حيث أعلنتْ أنّ مبادئَ العَلمانية بحاجةٍ إلى تغييرٍ؛ إذ دعتْ الرابطة إلى إقامةِ عَلْمانيّة جديدةٍ ومنفتحةٍ وتعدديّة.

مفهومُ العَلْمانيّة في فرنسا أحدثَ تغييراتٍ عديدةً في النظام الأخلاقيّ والاجتماعيّ فضلاً عن التربية والتعليم، فالمدرسةُ تعدُّ أوَّلَ مكانٍ طُبّقتْ فيه العَلمانية على المجتمع.

وفي عام 1881 أُقرّتْ مجانيّة التّعليمِ الابتدائيّ، وبعدَ سنةٍ؛ صدرَ قانون 1882 -المعدّل في قانون 1936- بأنّ التعليم إلزاميٌّ لِكلا الجنسين سواء أكانوا فرنسيين أم أجانبَ، والذين تتراوحُ أعمارهم بين السادسة والرابعة عشرة.

وفي عام 1905 اتّخذتِ العَلمانيّة في فرنسا موقفاً حازماً من رجال الدين من خلال منعِ جميعِ الرّهبانِ المُعلمين من التّعليم في المدارس العامة، وقُرِّرَ إغلاق المدارس الدينية.

وتتوضحُ عَلمانية التعليم العامّ في المراحل الأولية في مبدَأين أساسَينِ:

1- يجبُ أن يكونُ الفردُ في المدرسةِ العَامّة عَلمانياً.

2- يجبُ أن يتخذَ التّعليم جانبَ الحياد تجاه الدين.

القوانينُ الأساسُ بشأن العلمانية في فرنسا (١٨٨١ - ١٨٨٩)

القانون الإصلاح
١٦ حزيران / يونيو ١٨٨١ م أصبح التعليم الابتدائي مجانياً
٢٨ آذار  / مارس ١٨٨٢ م أصبح التعليم الابتدائي إلزامياً وعلمانياً
٢٧ تموز / يوليو  ١٨٨٤ م إعادة الاعتراف بالطلاق
١٤ آب / أغسطس  ١٨٨٤ م إلغاء تلاوة الصلوات في بداية الجلسات البرلمانية
٣٠ تشرين الأول / أكتوبر ١٨٨٦ م علمنة المستشفيات
١١ شباط / فبراير  ١٨٨٥ م علمنة موظفيّ المدارس الحكومية
١٥ تموز /  يوليو ١٨٨٩ أن تصبح الخدمة العسكرية إلزامية لرجال الدين

ولعلّ أهمّ نقطةٍ في التعليم في فرنسا هي مسألة الرموز الدينية، ففي عام 2004 اعتمدَ البرلمان الفرنسي مشروع قانون في شأن فرض الحظر على إظهار الطلاب لرموزهم الدينية في المدارس الحكومية. ( في 15 آذار(مارس) 2004 وقَّع الرئيس الفرنسي جاك شيراك على مشروع القانون في شكل قانون نافذ)

وجادلتِ الحكومةُ الفرنسيّةُ في حظر هذه الرّموز الدينية (الحجاب الإسلامي والقلنسوة اليهودية والصليب المسيحي ذو الحجم الكبير وعمامة السيخ،) فهي تعدها حمايةً للمدرسةِ الحكومية من التعبير عن الهويةِ والطّائفة، لكي لا يُعامَلَ المواطن في مؤسساته الرسمية بمعرفةِ دينِ الآخرِ بل باحترامٍ لكونِه إنساناً، وبأنّ ارتداء الملابس الدينية يمثّلُ انتهاكاً للفَصلِ القانونيّ بين الكنيسة والدولة، "ولكن يجوز ارتداء الرموز الدينية الخَفية".

‏ولا تخضعُ المدارسُ الخاصّة للقانون، فيجوزُ للتلاميذِ أن يرتدوا رموزاً دينيّة بارزةً داخلها، وهذه هي الحالُ، خصوصاً في المدارسِ الإسلامية الخاصة في فرنسا.

لكنَّ قانونَ حظر الحجاب الإسلامي في المدارس العامة أثار ضجةً كبيرة في فرنسا؛ إذ خرجتِ النساء المسلمات في مظاهراتٍ في مدن فرنسا للاحتجاج على القانون، وشغلت هذه القَضِيّةُ مساحاتٍ واسعةً في الأوساط السياسية في فرنسا وخاصة أنها تضمّ أكبرَ أقليّة مسلمةٍ في أوروبا، حتى إنّها كانت حديث الصحف الفرنسية؛ إذ تجاوزَ عدد المقالات التي نشرت عن قضية الحجاب  1714 مقالٍ.

( الشعلةُ الأولى للحظر كان في عام 1989 عندما طرَدَ مدير إحدى المدارس الثانوية الواقعة في كريل بالقرب من باريس  ثلاثَ طالباتٍ مسلمات بسبب ارتدائهن الحجاب)

شابّاتٌ مسلماتٌ يرتدين الحجاب الإسلامي ويرفعن شعاراتٍ في شوارع مرسيليا للاحتجاج على فرض حظر على ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية الفرنسية ، 17 يناير / كانون الثاني 2004.

ومن ناحية أخرى؛ فممارسة الشعائر الإسلامية مسموحٌ بها في القوانينِ الفرنسية، فالمُواطِنُون أحرارٌ فيما يأكلون، فلا تتدخل الدولة في عملية إصدارِ الشهاداتِ الخاصّة بالأغذيةِ الحلال، وهي تعدّ الذبح وفقاً للشعائر الدينية جزءْاً من حرية العبادة، وأيضاً يجوز وضعُ علاماتٍ خاصّةٍ بديانةِ المتوفَّى على القبور فقط.

وتتيح أحكامُ القانون الفرنسي منحَ إذنٍ بالغياب في مناسبات رسمية خاصة بكل ديانة من الديانات مثل عيد الفطر وعيد الأضحى، ولا يخضع صوم رمضان لأيِّ نظامٍ أيضًا، ويُعدّ جزءاً من الحرية الدينية، والصلواتُ الخمس غيرُ خاضعةٍ لأيّةِ قاعدةٍ عامة في فرنسا، ولكن؛ في الإطار المهني؛ لا تكون إقامة الصلاة ممكنةً إلَّا في حال عدم تأثيرها في حسن سير عمل المنشأة.

وفيما يخصُّ دورَ العبادةِ الإسلامية فقد كان عددُها يناهزُ 1500 مسجدٍ في عامِ 1999، وفي الوقت الحالي يبلغ عدد المساجد في فرنسا  أكثر من 2800 مسجد، تمثّل في معظمها مبانيَ متوسطة الحجم.

وساندتِ السّلطات الفرنسيّة إنشاءَ المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في عام 2002 أيضًا.

وبذلك؛ تنطوي السياسة الفرنسية إزاءَ الدين على جانبَين:

من ناحيةٍ أولى؛ تُستبعَدُ الرموز الدينية وأشكال الخطاب الديني المختلفة من المحيط العام، فضلاً عن غياب أيّ وجودٍ للصلاة، أو أيّ قسمٍ بوضعِ اليدَين على الأنجيل في داخلِ المعاهد التعليمية العامة في فرنسا.

وإضافةً إلى ذلك؛ تتيحُ فرنسا - فيما يخصّ حقّ عقدِ الاجتماعاتِ الدّينية وحقّ تلقّي التعليم الدّيني الخاصّ - مساحةً كبيرةً من الحرية للمجموعات الدينية.

فالعَلمانية في فرنسا باختصار:

أولاً: مرنةٌ وقابلةٌ للتكيّف مع متغيراتِ العصرِ والوطنِ.

ثانياً: يغيبُ فيها الخلافُ التّصادمي الدينيّ والطائفيّ.

ثالثاً: تحتضنُ كلَّ الحريات مع وضع ضوابط تحميها.

رابعاً: تمنعُ رجالَ الجيش وقوى الأمن الداخلي من التدخل في السياسة، وتقبلُ ممارسةَ شعائر المواطن الدينية.

وبهذا كلِّه؛ نجد أنّ العلمانية في فرنسا - حَسْبَ رأي المفكرين - أعطت للأقلية المسلمة مساحةً واسعة من الحرية وألغَتِ القيود المفروضة عليها على الرغم من إشكالية حظر الحجاب الإسلامي في المدارس العامة. وتتاكَّدُ هذه المساحةُ في بنود قانون العام ١٩٠٥؛ إذ لا تحرمُ الدولةُ أبدًا تمكُّنَ الإسلامِ من خلق ظروفٍ تعطي المسلمين الإحساسَ بأنهم يعيشون ثقافتهم ويمارسون شعائرهم في الظروف نفسها التي يعيشها الفرنسيون.

ونختتم كلامنا بمقولةٍ للفيلسوف الجزائري محمد أركون :”إنّ العَلْمانية مكسبٌ للإسلامِ والمسلمين كما أنَّ الإسلامَ والمسلمين مكسبٌ لفرنسا".

المصادر:

1- هنا

2- العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين، أحمد ت. كورو

3- الإسلام والعلمانية، أوليفيه روا.

4- العلمانية، غي هارشير، ترجمة رشا الصباغ.