البيولوجيا والتطوّر > بيولوجي

سمكةُ الخنزيرِ والإبصارُ عن طريق الجِلد!

لطالما سَحرتْنا الحيواناتُ القادرةُ على تغييرِ لونِها! تلك التي شَغَلت موقعًا مميَّزًا في دراساتِ البيولوجيِّين؛ إذ ناقشُوا أسبابَها وآليةَ تطبيقها. ومنِ هذه الكائناتِ (سمكةُ الخنزير Hogfish)؛ التي ظنَّ بعضُ الباحثين أنَّها لا تعتمدُ على عينيها فقط لضبطِ مظهرِها الخارجيِّ مع مُحيطِها، بل تستشعرُ الضَّوءَ عن طريقِ جلدِها أيضًا. فما سُمّيَ بالرُّؤيةِ الجلديَّةِ كَمَزحةٍ في البداية.. بَقيَ لُغزًا إلى اليوم.

وقد اقتُرِحَ في مجلَّة the Journal of Comparative Physiology - وفي استعراضٍ لنتائجِ تحليلٍ جينيٍّ لسمكةِ الخنزير Hogfish - أنَّ الاستشعارَ الضَّوئيَّ يَحدُثُ في نوعَين من الأنسجة؛ وهما نسيجُ الشَّبكيَّةِ في العين، والنَّسيجُ الجِلديُّ الذي يعتمدُ خلايا حاويةً على أَصباغِ Chromatophores، فأُجريَت الدِّراسةُ على النَّوع Lachnolaimus maximus من سمكِ الخنزيرِ Hogfish، فلنتعرَّفْ معًا على هذا النَّوعِ قليلًا.

تنتشرُ سمكةُ الخنزيرِ في منطقةِ البحرِ الكاريبيِّ، وتمتدُّ جنوبًا حتَّى المنطقةَ الشَّماليَّة من السَّاحلِ البرازيليِّ، وتُوجَدُ بِكثرةٍ في الشِّعابِ المَرجانيَّةِ على عمقِ 3-40 مترًا عن سطحِ البحر، وتدسُّ سمكةُ الخنزيرِ خطمَها المُدَبَّبَ في الرِّمالِ بحثًا عن القشريَّاتِ والرَّخويَّاتِ لكي تتغذَّى عليها. ويتنوَّعُ لونُ سمكِ الخنزير تبعًا لِموئِلها وجنسِها وعُمرِها، فتميلُ الإِناثُ والأسماكُ الصَّغيرةُ لاتِّخاذِ ألوانٍ شاحِبةٍ كَالرَّماديِّ والبُنِّيِّ الباهِتِ والبُنِّيِّ المُحمَرِّ مع قزحيَّةٍ حمراءَ زاهية، أمَّا الذُّكورُ فتكونُ رماديَّةً وبُنِّيَّةً داكنةً مع زعانِفَ صدريَّة صفراء.

ولم يكتفِ سمكُ الخنزير بتشكيلةِ الألوانِ هذه، بل لجأَ إلى أساليبَ ملتويةٍ تُساعدُه في تغييرِ لونِه بهدف الحمايةِ والبقاءِ والتَّواصُل، وقد أشارَت التَّجاربُ إلى أنَّ سمكَ الخنزير يُبدِّلُ لونَه ليُصبحَ أكثرَ شُحُوبًا وابيضاضًا أثناءَ هروبِه من أسماكٍ مُفترسَةٍ، فيَتماهى مع لونِ القاعِ الرَّمليِّ ويلجأُ إلى ألوانٍ فاقعةٍ وبرَّاقةٍ ليُرسِلَ إشارةً إلى أقرانِه.

وتستجيبُ النُّسُجُ الحيوانيَّة للضّوء بآلياتٍ مُتعدِّدةٍ يمكن تصنيفَها كَآلياتِ الإِبصارِ المرئي visual photoreception، وآلياتِ الإبصارِ غير المرئي non-visual photoreception، وتحدثُ كلتا الآليَّتين في شبكيَّةِ العينِ عبرَ شبكةِ العُصبوناتِ التي تدعمُ تشكيلَ صورةٍ مرئيَّةٍ يُمكنُ ترجمتُها في قشر الدِّماغ، ولكنَّ الضَّوءَ الذي تتعرَّضُ له شبكيَّةُ العين لا يُترجَمُ كصورٍ مرئيَّةٍ فحسْب، بل يتدخَّلُ في عملياتٍ بيولوجيَّةٍ أُخرى؛ كَتنظيمِ السَّاعةِ البيولوجيَّةِ اليوميَّة circadian rhythm ودوراتِ اليقظة. وقد نَجدُ خارجَ نطاقِ العين الاستقبالَ الضَّوئيَّ غير المرئيّ فعَّالًا، وتحديدًا في أنسجةٍ عصبيَّةٍ كالغُدَّةِ الصَّعترية.

واكتُشِفَت مؤخَّرًا خلايا غيرُ مجنَّدةٍ لصالحِ الجهازِ العصبيِّ تستجيبُ للتَّنبيهِ الضَّوئيِّ، ممَّا شكَّلَ مفهومَ الإبصار الجلديِّ dermal photoreception .

ويمتلكُ سمكُ الخنزيرِ في جلدِه مجموعةً فعَّالةً من الخلايا الحاويةِ على أَصباغ chromatophores؛ وهي خلايا مُميَّزة تحتوي على حُبيباتٍ غنيةٍ بالأصبغة، وتستجيبُ للتَّنبيهِ الضَّوئيِّ، فتُعيدُ ترتيبَ الحُبيباتِ مُفرزةً صِباغًا يُغيِّرُ لونَ الجلد أو نموذجَ التوزُّعِ اللوني فيه.

وقد خضعَت في جامعة "ديوك" عيِّناتِ جلدٍ وشبكيَّةَ العين من أُنثى سمكةِ الخنزيرِ المُنتشرة في فلوريدا لِسلسلةِ اختباراتٍ؛ كَقراءَاتِ الجِين ونسخِ RNA؛ لتحديدِ الجيناتِ الفعَّالةِ التي يُعبَّرُ عنها في هذه الخلايا، ولكنَّ نمطَ التَّعبيرِ الجينيِّ لا يَتشابَهُ في الخطَّين الخَلويَّين؛ إذ يُعبَّرُ عن خمسِ جيناتِ أوبسين opsin فريدةٍ في خليَّةِ الشَّبكيَّة، في حين يُنتَجُ في الخليَّة الجلديَّة أوبسين حساسٌ تجاه أطوالِ الموجات الضَّوئيَّة القصيرة SWS1: short wavelength sensitive opsin. وقد وجدَ العلماءُ أنَّ العمليَّةََ التَّطوُّريَّةَ لنقلِ إشارةِ التَّحفيزِ الضَّوئيِّ ضمن الخليَّةِ مختلفةٌ تمامًا في الشَّبكيَّة عمَّا هي في الخلايا الجلديّة، فكلُّ خليَّةٍ تَستخدِمُ آليَّتَها الخاصَّةَ وبروتيناتِها الخاصَّة.

ووُجد أنَّ طريقَ التَّحفيزِ الخَلويِّ للإشاراتِ التَّابعةِ لتلقِّي الشُّعاعِ الضَّوئيِّ - بالمُقارنة مع دراساتٍ سابقةٍ أُجريَت على حيواناتٍ تعتَمدُ على التبديل اللونيِّ كَآليةٍ دِفاعيةٍ؛ كَالحبََّار والأخطُبوط - يتشابَهُ ما بين الخلايا الجلديَّة والشَّبكيَّة، أمَّا الاستجابةُ الجلديَّة للضَّوءِ عند سمكةِ الخنزير فمُختلفةٌ.

إذ لا تَمتلكُ الخلايا الجلديَّة المُستجيبةُ للضَّوء Dermal photo recipient دِقةً عاليةً في تَمييزِ التفاصيلِ كَالخلايا الحِسيَّة في شبكيَّةِ العين؛ ولكنَّها تتفاعلُ مع تغيُّراتِ طُولِ الموجةِ للضَّوء المُحيط والسُّطوع وتَحرُّكاتِ الظِّلِّ باقترابِ المُفترِس واختلافِ أنماطِ الضَّوء في أثناءِ الأوقات المُختلفةِ في اليوم.

ويمكنُنا تبرير أيَّةَ حالةٍ إلى شلَّالاتٍ من الإشاراتِ الخَلويَّةِ والبروتيناتِ المُتفاعِلَة؛ إذ لا تَستعصي أصعبُ الألغازِ على البيولوجيا، وربَّما سنتمكَّنُ بعدَ سنواتٍ من تحديدِ جميعِ الجِيناتِ المَسؤولةِ عن الاستجابةِ غير المرئيةِ للضَّوءِ وتَنسيلها في كائنٍ حيٍّ، فنَمنحُهُ بذلك قُدراتٍ مُذهلةٍ يَتباهى بها أمامَ أقرانِه.

المصادر: 

هنا

هنا

هنا