كتاب > الكتب الأدبية والفكرية

مراجعة كتاب (كائن يمرح في العدم): في فلسفةِ العدَمِ وغيابه.

يطرحُ الكاتبُ الشابُّ فيصلُ الحبيني مسألةً جدليّةً ألا وهي الوجود والعدم، ولكن بطريقةٍ مميَّزةٍ خاصَّةٍ بكُتَّابِ الفن السوداوي عبرَ نصوص تأمُّلية مُقسَّمةٍ إلى أربعةِ فصول.

أولاً: وجود:

يبدأ الكتابُ برسالةٍ مطوَّلةٍ إلى العالَم تحكي عن وجود الإنسان على الأرض ووجودِ الكاتبِ في هذا العالم الفسيح، وجودٍ يَعدُّه غلطةً أكثر من كونه قدرًا، فيتحدَّثُ بالتفصيل عن ماضي الأرض وسكانها، وعن إجرام البشر بِحقِّ بعضهم وبِحقِّ أنفسهم وبِحقِّ الأرض.

فيقول مخاطبًا النبيَّ نوح: "أردتَ أن تحفظَ الأرضَ من الفيضان يا نوحُ، ولكنَّكَ حملت في مركبك بذرةَ الطوفان، لقد حملتَ معكَ الإنسان".

كما يتساءلُ عن ماهيَّةِ الحياة نفسِها؛ فيقول: "صارَ السؤال الحقيقيّ الذّي علينا أن نسألَه حقاً، ليس ما إذا كانت هناك حياةٌ بعد الموت، بل هل يوجَدُ حياةٌ فعلًا قبل الموت؟".

ثانياً: غبار:

يُقدِّمُ الكاتبُ في هذا الفصل نظريَّةَ الغبار، وأنَّنا كنا نعيشُ في العدم، ثم جئنا إلى الوجود، وإلى العدم سنرجِعُ؛ لذلك فإننا نتركُ خلفَنا غبارًا ليتشكَّلَ جيلٌ جديدٌ بعدَنا، وعليه فإننا مكوَّنون من غبار أجدادِنا ممَّا يزيدُ من تعبِنا وشيخوختِنا وحزنِنا قرونًا من الزمن.

فهو يرى أنَّ الأحلامَ مُجرَّدُ غبارٍ فيقول: "الأحلامُ غبارٌ، فُتاتٌ لعينٌ في جيبِ الجفن يَحولُ بيننا وبين النظر فيما حولنا، يمنعُنا من رؤيةِ الأشياء والتمتُّعِ بجمالها، يشغلُنا بشيءٍ غير موجود، يطردُنا من اللحظة الحاضرة ويحجزنا في مستقبل هيوليّ لا أساسَ هناك ليدعمه غيرَ وهم".

وفضلًا عن ذلك؛ فإنَّ المعرفةَ والسعادةَ والحقيقةَ جميعُها غبارٌ برأيه، وحتَّى إذا ما فكَّرنا قليلًا بصِغَرِنا أمام المعرفة أو لحظيَّةِ وجود السعادة ونسبيَّةِ الحقيقة لَأدركنا أنَّها غبارٌ وأنَّ ما يصلنا منها بقاياها لا أكثر.

ثالثاً: مَلل:

يتطرَّقُ الكاتب إلى أيامِ الأسابيع المتتالية وتشابهها؛ إلى أعمالِنا المُمِلَّةِ المحدودة يتخلَّلُها بعضُ المشاهد اليومية التي تقودنا إلى أنَّنا نعيشُ في ملل ويأس مُكرَّرَين.

وفي هذا الفصل سنجد أنفسنَا أمامَ إحساسٍ كبيرٍ في عدم الجدوى، وانفصالٍ شبهِ تامٍّ عن الحياة، وعلى الرغم من كميةِ اليأس الموجودةِ؛ لكنَّنا "محكومون بالأمَل" كما كاتبُنا؛ إذ يقول: "آه ما أعندَنا وأجملَنا! إننا ننجو كل يومٍ بأعجوبة، بإصرارٍ على الحياة رغم كل ما في الحياة".

فالمللُ إذًا لا يوجَدُ سوى في الحياة، لأنَّ خواءَ معنى الحياة يقودُنا إلى الملل؛ إذ يُعرِّفُ المللَ: "الملل هو إعلانٌ أمام الملأ بأنَّ الوجودَ بحدِّ ذاته لا يكفي، وهو أمرٌ مألوفٌ عند كائنٍ قد جاءَ من العدم الذّي لا حدود له، لأنَّه غيرُ موجود وانتقل فجأةً إلى الوجود الذّي يتطلَّبُ حدودًا لكي يوجد".

رابعاً: عدم:

تبدأُ الحياةُ بالولادةِ وتنتهي بالموت، ولكنَّنا نزورُ العدَمَ في حياتنا عن عدمِ درايةٍ، فالنَّومُ مثلًا هو رحلةٌ للعدم وللغرق في متاهة الأحلام غير المعرَّفة.

وإننا منذ ولادتِنا نتَّجهُ نحو الرحيل؛ نحو عودتِنا إلى العدم، وبذلك فلا يُوجَد حلٌّ سوى الموت، فيقول الكاتب في تعريفِ الموت وتخفيفِ حقيقته: "الموتُ هو الخلاصُ الوحيدُ، فالأملُ كلُّ الأملِ يقبَعُ في هذه الحقيقة المُفزِعةِ، فأَن نُدرِك موتنا؛ هذا يهوّن من الفجيعة التي نُسمِّيها حياتنا، وكلُّ سعينا في أن تقودنا الحياة الزاخرةُ بالصخب والألم والضحك والصراخ أخيراً إلى الصمت؛ ذلك الدَويِّ المُقدَّس المُتشعِّبِ في أرجاء العدم".

ويذكر الكاتبُ الموتى الذّين عادوا إلى العدم فرحين بعودتهم أيضًا، وأنَّنا يجبُ ألَّا نذكرَهم بل أن نتركهم ينسونَ وجودَهم على هذه الأرض، وألَّا نستحضرَ غبارَ أرواحِهم بتذكُّرهم.

وأخيرًا؛ فإنَّه يفتحُ بابَ الأفكار الجديدة البعيدةِ عن أفكارنا المُقولَبة، فيقول: "لا يختلفُ العدمُ كثيرًا عن الوجود، الخلافُ الوحيدُ هو الوعي، أنت توجَدُ في العدم لكنَّكَ لا تعي ذلك، تمرحُ هناك ولا تشعر بذلك، إنها نشوة، نزاهةُ أن تكون سعيداً وأنت لا تعي شيئاً عن هذه السعادة لكنَّها نشوة لا تُحَسُّ على كلِّ حال ما يجعل من قيمتِها المَحضة مضاعفة!".

فلسفةُ كتاب (كائن يمرح في العدم) فريدةٌ من نوعها، فلسفةٌ على الرغم من كآبتِها وسوداويَّتِها وعدمية أفكارِها؛ لكنَّها تعودُ بنا إلى أزمنةٍ قد لا نصدِّقُ بوجودها حيثُ لا وجودَ للوعي عندها، وعندما تقرأ هذا الكتابَ ستتوه في أفكارك وستندفعُ مُفكِّرًا في الوجود والحياة وما بعدهما، إذًا فهو كتابٌ شائقٌ غنيٌّ يطرَح الأفكارَ بسلاسةٍ وعُمق.


معلومات الكتاب:

الكتاب: كائن يمرح في العدم.

اسم الكاتب: فيصل الحبيني.

دار النشر: دار مسعى للنشر والتوزيع.

عدد الصفحات: 128 صفحة.