الطب > علوم عصبية وطب نفسي

الأفكارُ .. منَ اللَّاوعي إلى الوعِي.

عزيزي القارئ؛ بمجرّد قراءتِك هذا المَقال ستَنهمِكُ باحاتُ قشرتِك المُخّيّة في العمل؛ إذْ إنّ دماغَكَ يعملُ على معالجةِ أيّة مَهمَّةٍ واردةٍ إليه مهمَا كانت بسيطةً في اعتقادِنا، وَمنْ أهمّ المواضيعِ الّتي أثارَت اهتمامَ عُلماءِ العصبيَّة هيَ كيفيَّةُ انتقالِ الأفكارِ عبرَ جهازنا العصبيّ من اللّاوعي إلى الوعي، وَما هما الآليَّةُ والزَّمنُ اللّازِمَان كيْ نَعِيْ فكرةً مَا، ومِنْ ثمَّ نتَّخذُ القرارَ المُناسِب تجاهَهَا ..

فلنُبْحِر سويّةً في مكنوناتِ أدمغتِنا البشريَّة لمعرفةِ ذلك ..

تُعَدُّ القشرةُ المُخيَّةُ (المادَّةُ الرّماديّة) المسؤولَ الأساسيَّ عنِ الوظائفِ العُليا؛ كمعالجةِ الأفكارِ واللّغة، وتُؤدِّي الطّبقاتُ الخارجيَّةُ منَ القشرةِ المُخيَّة - والّتي تُدعَى "القشرةُ أمام الجبهيَّة prefrontal cortex" -  دورَ القائدِ المُنسِّق لهذه الفعاليَّات.

تساءَلَ عُلماء العصبيَّةِ عمَّا يحدثُ في دماغِنا في أثناءِ سماعِنا فكرةً ما، أو عندما يُطرَحُ سؤالٌ ما علينَا، وهل اللّحظةُ الّتي نَعيْ فِيها الإجابةَ هيَ اللّحظةُ ذاتها الّتي تُرافِقُ انتهاءَ الدّماغِ من معالجتِها أمْ لا؟

وبناءً علَى ذلك؛ أُجريَت العديدُ من التّجاربِ في هذا المجال، وأهمُّها تجربةُ علماءِ العصبيَّة في جامعةِ California Berkeley؛ إذْ خطَّطُوا الأمواجَ الدّماغيّةَ لـ 16 مريضَ صَرعٍ في أثناءِ خضوعِهم لجراحةٍ دماغيَّة، مُستخدمِين تِقنيَّةَ  ECoG "تخطيط أمواجِ الدّماغِ عبرَ القشرElectrocorticography"؛ إذْ تُثبَّتُ بضعةُ مئاتٍ منَ الأقطابِ مباشرةً إلى سطحِ الدّماغ.

وتستطيعُ هذهِ التِّقنيَّةُ تحديدَ الأماكنِ الّتي يحدثُ فيهَا التَّفكير، وكيفيَّةَ حدوثِه بصورةٍ أدقّ منْ تخطيطِ الأمواجِ التَّقليدي Electroencephalography"  EEG"؛ والّذي تُثبَّتُ فيهِ الأقطابُ إلى فروةِ الرَّأس مِن الخارج.

ثمَّ عرضَ الباحثون على المرضى عدَّةَ مسائل؛ بعضُها بسيطٌ وبعضُها الآخر مُعقَّد، وسجَّلوا كهربائيَّة الدّماغ في أثناءِ هذا النَّشاط، فوَجدُوا أنَّه عندَ تلقِّي تنبيهٍ سمعيٍّ حسّيٍّ تتكوّنُ سيالةٌ عصبيَّةٌ تصلُ إلى الباحةِ السَّمعيَّة الحسِّيَّة أوّلاً، وتنتقلُ هذه السَّيالةُ إلى القشرةِ أمام الجبهيَّة (المنسّقُ الأساسيّ لجميعِ هذه التَّنبيهات)، ومنْ ثمَّ تُرسلُ الأوامرُ الحركيَّةُ إلى الباحاتِ المُحرِّكة للقيامِ بفعلِ الإجابَة، وتحدثُ جميعُ هذهِ المراحل في أجزاءٍ من الثَّانيةِ فقط، وقدْ تصلُ إلى 2-3 ثوانٍ في المسائِل الأكثرَ تعقيدًا.

وقدْ يبدو الأمرُ في غايةِ البساطة؛ لكنّ الدّماغَ يعملُ بآليّةٍ أكثرَ تعقيدًا في الواقع؛ إذْ تنطلقُ هذه الفعاليَّاتُ من استجابةِ خليَّةٍ عصبيَّةٍ واحدةٍ لمنبّهٍ مَا، والَّذي عندَ وصولِه إلى عتبةٍ مُعيَّنة؛ يُطلِقُ إشارةً كهربائيَّةً تكوِّنُ حقولًا كهربائيَّةً موضعيَّةً في الباحةِ المُنبِّهة، وسُرعانَ ما تتكوّنُ حقولٌ مشابِهةٌ في باقي الباحات القشريَّةِ على نحوٍ مُتزامن، ومهمَا تكُنِ الفكرةُ بسيطةً تتشاركْ عدَّةُ باحاتٍ في مُعالجتِها، ويجدرُ بنا الإشارةُ إلى أنَّ هذه الحقولَ تتفعَّلُ عندَ تجاوزِ التَّنبيهِ الواردِ عتبةً معيَّنةً يُحدِّدُها الدّماغ.

وإنَّ مُعظمَ الأفكارِ الّتي تجولُ في دماغِنا تحدثُ دونَ أنْ تُنبِّه الوعي؛ ما يعني  أنّنا لا نُدركُ أنَّ دماغَنا يُعالجُ هذهِ الأفكار، وقدْ يبدأُ الدّماغُ بمعالجةِ بعضِ الأفكارِ دونَ الحاجةِ إلى تلقّي التّنبيهاتِ الواردة كافَّةً؛ إذْ من الممكنِ أنْ يعتقدَ دماغُنا أنَّ لديه ما يكفي من المُعطياتِ والأدلّة في بعضِ الأحيان، فعندَ عملِ أدمغةِ المشاركِين في التَّجربة على مَهمَّةٍ سهلة؛ لاحظَ الباحثون - أحيانًا وفي الوقتِ الّذي ما زال المنبِّه يُقدَّم إليهم - إضاءةَ القشرةِ المُحرِّكة في الدّماغ، والّتي تكونُ مسؤولةً عن الاستجابة، وهذا ما قدْ يُفسِّر إجابَتنا عن سؤالٍ مَا - أحيانًا - قبلَ سماعِه كاملاً.

وبعدَ أنْ رأينا كيفَ سَلَّطتْ هذه الدّراسةُ الضّوءَ على دورِ الفَصِّ أمام الجبهيّ في تنسيقِ الفعاليَّات الّتي تحدثُ في القشرةِ الدّماغيّة؛ إليكَ عزيزي القارئ هذا الفيديو الّذي يُوضِّحُ استجابةَ الدّماغ لمنبِّهٍ بسيط؛ مثلِ سماعِ كلمةِ رطب Humid وتَكرارها، ويوضِحُ المراحلَ الثَّلاثة الّتي تحدثُ في الدّماغ حينَئذٍ أيضًا؛ منَ الإدراكِ الحسّيّ للمنبِّه؛ إلى تقييمِ الكلمةِ؛ وانتهاءً بتحضيرِ الاستجابِة وتنفيذِها.

وهُنا مثالٌ آخرُ  لعمليَّةٍ أكثرَ تعقيدًا، كسماعِ  كلمةِ رطب، والسّؤالِ عن معاكِسِها في المعنى.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا