الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

العَلْمانية

سنتحدّثُ في هذه السلسلة عن :

مفهوم العلمانيةِ

‏العلمانية الفرنسيّة الجزء الأول

‏العلمانية الفرنسيّة الجزء الثاني

‏العلمانيّة عند العرب

مفهوم العلمانية :

تعدُّ العلمانيُّة من أشهرِ المصطلحاتِ التي أخذتْ حيزاً كبيراً  من الحواراتِ والنقاشاتِ في المجتمعات، والتي لا يستقرُّ تعريفُها في سطرٍ أو سطرين، وذلك لاختلافِ المثقفين والمفكرين السياسيين على تفسير مفهوم العلمانية.

العَلَمانية في العربية مشتقّةٌ من مُفردةِ عَالَم، وهي بدورها قادمةٌ من اللغاتِ السّاميّة القريبةِ منها، أمّا في الإنجليزيّة والفرنسيّة فهي مُشتقّة من اليونانيّة بمعنَى العامّة أو الشعب.

مفهوم العَلمانية بِالإنجليزية: Secularism‏

وتعني اصطلاحاً فصلَ الدّينِ والمعتقداتِ الدينيّةِ عن السّياسةِ.

فالعلمانية ببساطةٍ هي استقلالُ دستورِ الدولةِ وسائرِ تشريعاتها وأنظمتِها من الاعتباراتِ الدينيّة والمذهبيّة، ولا يعني ذلك نبْذَ الاعتباراتِ الدينيّة والمذهبيّة نبذاً عِدائياً.

ظهرتْ ملامحُ فكرِ العلمانيّة في القرنِ السابع عشر، ويعودُ ذلك إلى الفيلسوف الهولنديِّ "إسبينوزا" الذي قال: "إنّ الدّين يحّول قوانينَ الدولة إلى مجرّدِ قوانينَ تأديبيّةٍ، وإنّ الدولة هي كيانٌ متطورٌ وتحتاجُ دومًا للتطوير والتحديث على عكسِ شريعةٍ ثابتةٍ موحاةٍ."

كما تحدّث جون لوك عن فكرة العلمانية، وهو يعدُّ من أكثرِ فلاسفةِ عصرِ التنويرِ تأثيراً:

"من أجلِ الوصولِ إلى دينٍ صحيحٍ، ينبغي على الدولةِ أن تتسامحَ تِجَاه جميعِ أشكالِ الاعتقاد، ويجب أن تنشغلَ في الإدارة العملية وحكم المجتمع فقط، يجب أن تكونَ الدولةُ منفصلةً عن الكنيسةِ، وألّا يتدخلَ أيٌّ منهما في شؤون الآخر.

أوّلُ من ابتدعَ هذا المصطلحَ هو الفيلسوف البريطاني جورج هوليوك عام 1851، ليشرحَ رؤيته التي تتلخص في إقامةِ نظامٍ اجتماعيٍّ مُتَحَرِّرٍ تماماً من الدّينِ في شؤونِ السّياسةِ والحكم، وأكد هوليوك: "العلمانية ليست ضد المسيحية، إنها مستقلة عنه".

كما كان للعربِ حصةٌ في هذا الفكرِ من موقعٍ لاهوتيٍّ كالمعتزلةِ، ومن موقعٍ فلسفيّ كَالفارابيِّ وابنِ طفيلٍ

أو من موقعِ العلمِ التّاريخيّ كَابنِ خلدون، وابن رشد والكواكبيّ.

بعد ذلك انتشرتْ انتشاراً كبيراً في بعض المجتمعات وخاصة في فرنسا بعدَ الثّورة الفرنسيّة عام 1790 التي أدّت إلى فصلِ الدولةِ عن الكنيسةِ بعد صراعٍ طويلٍ مع رجالِ الكنيسةِ

( سنتحدث بالتفصيل عن العلمانية الفرنسية في المقال القادم)٠

والعلمانيّة -كما يقولُ الدكتور عادل ضاهر- موقفٌ شاملٌ ومتماسكٌ من طبيعةِ الدّين وطبيعةِ العقل وطبيعة القيم وطبيعة السياسة.

وقد تميّزتْ كتاباتُ الفلاسفةِ بين نوعين من العلمانية:

- العلمانية الجزئية: هي رؤية جزئيّةٌ للواقعِ لا تتعاملُ مع الأبعادِ الكليّة والمعرفيّة لمفهوم العلمانيّة ومن ثم لا تتسمُ بالشّمول، وتذهبُ هذه الرؤيةُ إلى وجوبِ فصلِ الدين عن عالم السياسية، ومثل هذه الرؤية الجزئية تلتزمُ الصّمتَ حيال المجالات الأخرى من الحياة ولا تنكرُ وجودَ مطلقاتٍ أو كُلِّياتٍ أخلاقيّةٍ أو وجودَ غيبيات، ويمكنُ تسميتُها العلمانية السياسية والأخلاقية.

-العلمانية الشّاملة: فهي رؤيةٌ شاملةٌ للواقعِ تحاولُ بكلِّ صرامةٍ تحييدَ علاقةِ الدّينِ والقيمِ المطلقةِ والغيبيّات بكلّ مجالاتِ الحياةِ، وتتفرّعُ عن هذه الرؤيةِ نظريّاتٌ ترتكزُ على البعدِ الماديّ للكون أنّ المعرفةَ الماديّة هي المصدر الوحيد للأخلاق وأنّ الإنسان يغلبُ عليه الطابع المادّيّ لا الروحي ويطلقُ عليها العلمانية الطبيعية المادية.

فالعلمانية برأيِ الدكتور ناصيف نصار تهتمُّ بتوحيدِ النّاسِ ضمنَ الدولةِ ويجبُ على جميعِ البشرِ العيشُ ضمنَ جوٍّ من حريّةِ المعتقدِ والمساواةِ في الحقوق.

فالعلمانيّة تفترضُ الحيادَ تجاه جميعِ الأديان والأيدلوجيّات، وتُؤكّدُ على قيمةِ الإنسانِ بصرفِ النظرِ عن معتقدِه الدّيني، كما تؤكّد على حرية الممارسة السّياسية واستقلالِ المؤسسات التربوية والصحيّة والاجتماعية عن الانتماء الديني، وأيضاً تؤكّد على أنّ الوظائفَ الحكوميّةَ بمنأىً عن الانتماءات الطائفية وبالتالي فهي ضدّ الفيدرالية الطائفية.

ومن ثَمَّ فَالِنظامُ العلماني حاضنٌ لجميعِ الأديان والمعتقدات، فهو يضمنُ للمؤمنين وغير المؤمنين الحق ذاته في حرية التعبير عن قناعاتهم، وهي تسمحُ للدين بالنمو والازدهار بعيداً عن القمع، على عكس الدولة التي تتبنى عقيدةً دينيّةً أو عقيدةً إلحاديّة.

وعلى الرّغم من ذلك نجدُ معارضةً شديدةً لفكرةِ الدعوةِ إلى تأكيدِ إدارةِ شؤونِ النّاس دنيوياً بمعزلٍ عن الدين، بحجّة أن الدين يعزز الأخلاقَ، بصفتها ضرورةً اجتماعيّةً تسهم في تنظيم حياة الأفراد والجماعات.

كما تحدّث السياسي السوري شبلي العيسمي عن العلمانية بإنّها جملة من التدابير جاءت وليدةَ الصراع الطويل بين السلطتين الدينية والدنيوية في أوروبا واستهدفت فكَّ الاشتباكِ بينها، واعتمادَ فكرةِ الفصلِ بين الدين والدولة، بما يضمنُ حيادَ الدولةِ تجاه الدّين ويضمن حريّة الرأي، ويمنعُ رجال الدين من إضفاء صفةٍ مقدسةٍ على آرائهم ومن ثم فرضها على الأفراد والمجتمع والدولة.

وبالتالي نجدُ أنّ العلمانيّة ترتكزُ على ثلاث نقاط:

1- حرية المعتقد، والمساواة بين المواطنين

2- إبعاد الدين عن الأمور السياسية

3- التطلع للصالح العام والخير المشترك للجميع

و أخيرا نقولُ: إن العلمانية ليست ميتافيزيقية، بل فلسفةُ الّدفاع عن حقّ العقلِ في ممارسةِ البحث الميتافيزيقي وفي نقدِ هذه الممارسة.

مصادر المقال

1- المعجم الفلسفي، الدكتور مصطفى حسيبة

2- النزعات الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام، كارين آرمسترونغ

3-هنا

4- الأسس الفلسفية للعلمانية، الدكتور عادل ضاهر

5- العلمانية، ناصيف نصار