الفيزياء والفلك > فيزياء

خمسةُ تأثيراتٍ كموميّةٍ عجيبةٍ

لربّما سَمِعتَ عن قطة شرودنغر ومبدأ عدمِ اليقين للفيزيائيّ  هايزنبرغ، أو سمعت بالتّشابك الكميّ، هذه الظواهر الكوانتيّة هي محاولاتٌ تهدف إلى شرح العالَم على نطاقٍ متناهي الصغر، وأصبحت معروفةً جيّدًا منذ اكتشافها زُهاء قرنٍ أو نحو ذلك، ولكنّ هذه المحاولات بالكاد تشرح السلوكيّاتِ الغريبةَ وغيرَ المتوقّعة للذرّات والجسيمات دون الذرّية، فالعديد من الظواهر الكموميّة لا تزال غامضةً وخارجةً عن المألوف. دعونا نلقي نظرةً على خمسٍ من هذه الظواهر في مقالنا.

تأثير الزينو الكمّي  The quantum Zeno effect

لنبدأ مع قطة شرودنغر، في هذه التجربة الفكريّة الشهيرة تُحتَجزُ قطةٌ في صندوقٍ يحتوي على مادّةٍ مُشعّةٍ، إذا تفكّكّت هذه المادة إشعاعيًا، فإن الإشعاع المنطلق يؤدّي إلى إطلاق غازٍ سامٍ يقتل القطّة، ولكن إلى أن نفتح الصندوق لنطمئن على القطّة، لدينا احتمالان: إما أن تكون المادّة داخل الصندوق لم تتحلل بعدُ والقطّة ما زالت حيّةً، والاحتمال الآخر أن تكون المادّة قد تحللّت والقطّة ميتةً، ففي اللحظة التي نلقي فيها نظرةً على الصندوق، يتم اتخاذ القرار وتظهر القطة ميتةً أو حيةً.

 

ولكن إذا استرقت النظر إلى العلبة آلاف المرات في الثّّانية لمراقبة المادّة المشعّة، فقد تتمكّن من تغيير سلوكها! نعم، قد يبدو هذا جنونيًّا ولكنّه صحيح، إذ تبيّن أنّهُ من الممكن تأخير التفكّك (هذا ما يُسمّى تأثير زينو الكميّ) أو تسريعه (تأثير زينو الكميّ المُضاد) نسبةً إلى الفيلسوف اليونانيّ القديم زينو.

المفارقةُ هي؛ أنّ تأثير زينو يَحدُث بسبب الاضطراب الناجم عن دراسة الصندوق، حتى إن اهتزاز الصندوق دون النظر إليه من الداخل قد يكون كافيًا للقيام بالخدعة.

تفتقد جُسيمات النوترينو هويّتها الخاصّة  Neutrinos lack individual identities

قطة شرودنغر هي أحد الأمثلة على الأفكار الغريبة في فيزياء الكمّ: التراكُب Superposition مع أنّ القطة الحيّة والميتة في الوقت ذاته أمرٌ قد لا تشاهده في الحياة الحقيقيّة، لكن يعمل مبدأ التراكِب على أنّ الأشياء يُمكن أن توجَد في حالتين أو أكثر في آنٍ معًا، ويعتمد الفيزيائيون في بعض تجارب المختبر على الإلكترونات الملتفّة  باتجاه عقارب الساعة وعكسها في الوقت ذاته، وبناءً على هذه الفكرة، أظهر العلماء أنّ الجسيمات الشبحيّة التي تسمى النيوترينوهات يمكن أن توجد في حالتين أو أكثر في وقتٍ واحدٍ أثناء سفرها عبر مئات الكيلومترات، فالنيوترونات هي جسيماتٌ دون ذريّة بالكاد تتفاعل مع المادة (تمرُّ عشرات المليارات منها عبر يدك في الثانية) ويمكنها أن تتذبذب بسرعةٍ بين "النكهات flavours" المختلفة أو الأنواع، وتبدأ رحلتها في الفضاء كنكهةٍ محددّةٍ وتصل إلى وجهتها كنكهةٍ أخرى، لكنّ هذا التبدّل ليس بسيطًا، فتُظهر الأبحاث أنّ جسيمات النوترينو تعاني خلال الرحلة من أزمة هويةٍ، فهي لا تمتلك أية نكهةٍ محددةٍ، وأيضًا العديد من النكهات في وقتٍ واحدٍ

 

تُظهر هذه الصورة الّتي أُخِذت في مُنشأة سيرن في التسعينات، تفاعل جُسيم النيوترينو مع إلكترون.

تأثير هونج- أو- ماندل Hong-Ou-Mandel

البصريّات الكميّة: عبارة عن مجالٍ بحثيّ يدرسُ الضوء وتفاعلاتِه مع المادّة على أصغر المقاييس، ويصف تأثير "هونج أو ماندل" الطرقَ الغريبةَ التي يمكن أن يتفاعل بها فوتونان في جهاز تقسيم الحزمة الضوئيّة Splitter، وهو جهازٌ ضوئيٌّ يقوم بتقسيم شعاعٍ من الضوء إلى قسمين، مثل الموشور، عندما يدخل الفوتون إلى مقسّم أشعة 50:50، فإنّه قد يرتدّ أو يعبُر، مع احتمال 50٪ لكل من هاتين النتيجتين.

إذا أُدخِل فوتونان متطابقان مقسم حزمةٍ (كما في الصورة)، فهناك أربعةَ سيناريوهاتٍ مختلفةٍ قد تحدث:

1. ينعكس الفوتون أعلاه، ويمرّ الفوتون أدناه عبر مقسم الحزمة.

2. يعبر كلاهما عبر مقسم الحزمة.

3. ينعكس كلاهما.

4. يمرّ الفوتون أعلاه عبر مقسم الحزمة، وينعكس الفوتون أدناه.

كل شيءٍ طبيعيٌ حتى الآن، فأين تكمن الغرابة إذًا؟

الغريب في الأمر أنّه في حال كانت الفوتونات متطابقةً، لا يمكننا التمييز بين الاحتمال الثاني والثالث  وهكذا فإن الفوتونات المتطابقة تُلغي بعضها البعض، ونتيجةً لذلك، فإن النتائج: الأول والرابع هما النتيجتان الوحيدتان اللتان نراهما على الإطلاق: كِلا الفوتونين سوف ينتهي بهما المطاف دائمًا على نفس الجانب من المقسّم

الانكسار الفراغي Vacuum birefringence

في بعض الأحيان يتعيّن علينا النظر للكون على نطاقٍ واسعٍ لنفهم ما هو صغيرٌ جدًا، وجد علماء الفلك عن طريق دراسة النجوم النيوترونيّة،  أوّل دليلٍ على وجود تأثيرٍ كميٍّ يُسمّى الانكسار المفرط في الفراغ vacuum birefringence افتُرض أولَ مرةٍ في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما تنبّأت نظرية الكَمِّ بأن الفضاء الخالي - vacuum - ليس فارغًا على الإطلاق، بل إنه يعجّ بجزيئاتٍ افتراضيّةٍ تظهر إلى الوجود وتختفي عوضًا عن أن يمرّ الضوء عبر فراغ الفضاء دون تغيير، فقد تبيّن أنّ المجالات المغناطيسيّةَ القويّةَ مثل الحقول المغناطيسيّةِ المتشكّلةِ حول النجوم النيوترونية، يمكنها تعديل خصائص هذه الجسيمات الافتراضية في الفراغ، الأمر الّذي يؤثّر على استقطاب الضوء العابر، وعندما يصل الضوء إلى التلسكوبات على الأرض، يمكننا أن نرى نتيجة هذا التأثير الكمومي على المستوى الماكروسكوبي.

 

الحرارة الكموميّة

تخيّل أنّك سخّنت الفرن لتخبز كعكة فيه، لتكتشف لاحقًا أن الكعكة لم تُطهى بشكلٍ كاملٍ لأن بعض المناطق بداخل الفرن بقِيَت بدرجة حرارة الغرفة، لقد اعتدنا القول بأن الحرارة تتدفق بسلاسةٍ من المناطق الساخنة إلى المناطق الباردة المتاخمة لها، مما يجعل الغرفة أو الجسم يسخُن بالتساوي في جميع أجزائه، لكنّ الأمر ليس كذلك في الفيزياء الكميّة، فقد وجدت الأبحاث أن الحرارة تسلُك تصرفاتٍ غريبةً في مادّة الجرافين (مادةٌ استثنائيةٌ مصنوعةٌ من طبقةٍ واحدةٍ فقط من ذرات الكربون)، إذ وُجِد أنّ الإلكترونات التي تحمل الحرارة تنتشر على هيئة أمواج! الأمر الّذي يعني أن تظل بعض البقع في الجرافين باردة بينما تسخن بُقعٌ أخرى، ثم إن من المثير للاهتمام أنه يمكن التحكّم في حجم هذه الأمواج بحيث يمكن رؤيتها فعلًا باستخدام المجاهر الحرارية المتطورة، مما سيتيح للعلماء رؤية الحرارة على المستوى الكمومي، فإذا استطاع العلماء أن يوظفوا هذا التأثير، فقد يؤدي ذلك إلى تطبيقاتٍ في الحوسبة والطب والبيئة.

 

 

 

المصدر: هنا