البيولوجيا والتطوّر > الأحياء الدقيقة

جراثيمٌ تَفترسُ بعضَها لِتُصبحَ أَقوى!

قرأنَا في مقالاتٍ سابقةٍ عن الجَراثيم، وعن قُدرتِها على تطويرِ المُقاومة ضِدَّ الصَّادَّات الحيويَّة هنا: هنا. وأحدُ الأَسبابِ الرَّئيسَةِ لذلك هو الاستخدامُ العشوائِيُّ للصَّادَّات، ما أدّى إلى ظهورِ سُلالاتٍ جُرثُوميَّةٍ عاليةِ المُقاومةِ لَها؛ كما في حالةٍ نُشِرَتْ مُؤخَّرًا عن رجلٍ بريطانيٍّ أُصيبَ بِعَدوى السَّيلانِ الخَارِق Super gonorrhea، وهو مرضٌ مُقاوِمٌ لِجميعِ أنواعِ الصَّادَّات الحيويَّةِ التي تَوصَّلَ إليها العِلم حتَّى الآن!

وبذلكَ؛ فإِنَّ نُشوءَ هذه السُّلالاتِ المُقاوِمةِ ليسَت عَمَلًا فرديًّا لِجرثومةٍ واحدةٍ، بَل نتيجةً لِتراكُمِ طَفراتٍ وخبراتٍ في التَّعامُلِ مع الصَّادَّات، وتخوضُ هذه الكائِناتُ الصَّغيرةُ معاركَ دائِمةً مع تَرْسَانةٍ من أسلحتِنَا الفتَّاكَةِ، ولكي تَصمُدَ أمامَها لابُدَّ مِن أن تَستغلَّ كُلَّ ما تملِكُهُ من موارِدَ؛ لِتفوزَ بحربِ البقاء.

وعندَ ظهورِ أَكثرِ مِن سُلالَةٍ جُرثوميَّةٍ في مُضيفِها؛ تُحاولُ إِحدى السُّلالاتِ أَن تَحتَكِرَ مواردَها، وذلك عن طريقِ حَقْنِ مُنافِسيْها مِن الجراثيمِ بِخليْطٍ مِن الموادِّ السَّامَّةِ، والتي تُدعَى مُؤثِّرات effectors لِتقومَ بِقتلِها. وتتكوَّنُ هذه المُؤثِّراتُ مِن خليطٍ مِن السُّمومِ ذاتِ التَّأثيراتِ المُختلفَةِ؛ كي تَضمَنَ موتَ مُنافسِيها. وتُحافِظُ الجُرثومَةُ المَقتُولَةُ على بُنيَتِهَا في بعضِ الحالاتِ، لكنَّ المُشكلةَ تَحدُثُ إِذا أَدَّى تأثيرُ السُّمومِ إلى تَخريبِ غِشائِها، وتَحَلُّلِها، وإِطلاقِ مُحتوياتِها مِن المادَّةِ الوِراثيَّةِ. وتَستَثمِرُ الخليَّةُ المُهاجمةُ مخلَّفاتِ ضحيَّتِها مِن المادَّةِ الوِراثيَّةِ بما تحمِلُه من خصائِصَ مقاوِمَةٍ للصَّادَّات، فإِذا كانتِ الخليَّةُ الأُولى مُقاوِمةً لِصادٍّ مُعيَّنٍ؛ وكانتِ الخليَّةُ الثَّانيةُ مُقاوِمَةً لِصادٍّ من نوعٍ آخرَ؛ فسوف تَنتُجُ لدينا جُرثومَةٌ مُقاوِمَةٌ لِنوعَين مِن الصَّادَّات، وهكذا دَواليك حتَّى نَحصُلَ في النِّهايةِ على جُرثومَةٍ خارقةٍ تَستطيعُ رَدْعَ أَيّةِ مُحاولةٍ لِإِيقافِ تَكاثُرِها.

ومن أَكثرِ الأَماكنِ التي نَعزِلُ منها سُلالاتٍ جُرثوميَّةٍ مقاوِمةٍ لِلعديدِ مِن الصَّادَّات الحيويَّةِ هي المُستشفيات، ويُعزَى ذلك إِلى تنوُّعِ مصادرِ الجراثيمِ، وكَثرةِ تَواتُرها في مكانٍ واحدٍ؛ لِتُصبحَ المُستشفى أرضَ معركةٍ ضَاريةٍ بينَ العديد مِن السُّلالاتِ التي تَحملُ مُختلفَ الصِّفاتِ، ثمَّ يكونُ النَّصرُ حَليفَ الجراثيمِ التي استطاعَتْ قتلَ قَريناتِها، واكتسابَ قُدراتِها.

وإِلى الآن؛ تستمرُّ هذه الكائِناتُ المُدهشةُ في إِذهالِنا؛ فمقاومَةُ أَسلحتِنا ليسَت هي هدفَها الوحيد، وإِنَّما تسعى إلى مُقاومةِ السُّمومِ التي تُحارِبُ بِها بعضها بعضًا. ولِهذه الجراثيمُ ما يُدعى بالبروتيناتِ المناعِيَّةِ، أَو مُضَادَّات السُّموم antitoxins. وقد استطعنا التعرُّفَ إلى البروتيناتِ المَناعيَّةِ في خمسةِ أَنواعٍ مِن السُّمومِ المُؤثِّرَةِ لِلخليَّةِ المُفتَرِسةِ.

وعلى الرَّغم من سُهولَةِ عِلاجِها حاليًّا؛ فإِنَّ الجراثيمَ تُشكِّلُ خطرًا مُحدِقًا بالبشريَّةِ؛ بسببِ قُدرتِها المُذهلةِ على التَّطوُّرِ، وتَثْبيطِ مُحاولاتِنا في قتلِها. وبذلك فإنَّ هذه المَقدرة تُشكِّلُ تحدِّيًا للعُلماءِ كي يستَمرُّوا في ابتكارِ طَرائِقَ جديدةٍ لِمُحاربتها، والإِبطاءِ مِن عَجلةِ المُقاومَةِ لديها.

المصادر: 

هنا

هنا