الطب > مقالات طبية

كيفَ يُفكِّرُ المُراهِقون؟

طالمَا أُثيرَت التَّساؤلاتُ عن السَّببِ الكامنِ وراءَ ضَعفِ المنطقِ لدى المراهقِين في كثيرٍ من المواقفِ الحياتيَّةِ؛ والّتي قدْ تبدو بديهيَّة جدًّا لدى البالغِين، ولكن؛ لماذَا يجدُ المراهقون صعوبةً أكبرَ في إبرازِ المنطِقِ من خلالِ تصرُّفاتِهم وأقوالِهم وأفعالِهم؟

 رُبّما السَّببُ وراءَ ذلك ليسَ وجودَ أفكارٍ غريبةٍ أو خاطئةٍ  لدى المراهق، بل ببساطةٍ هوَ وجودُ آليَّةِ تفكيرٍ غيرَ مُكتملةٍ بعدُ، وما تزالُ قيدَ التَّطوير؛ أيْ بكلماتٍ أُخرى؛ المُشكلةُ ليستْ بما يُفكِّرُ المراهق، بل بكيفيّةِ تفكيرهم.

وقدْ أوضَحتِ الأبحاثُ - في أثناءِ دراسةِ الدّماغِ البشريّ وتحليله - أنَّه عندَ مواجهةِ الإنسانِ لمواقفَ تتطلَّبُ منهُ اتّخاذَ قرارات؛ تؤدّي منطقةُ الفصِّ الجبهيّ* (frontal lobe) في الدّماغِ دورَ المديرِ التَّنفيذيّ؛ إذْ إنَّ هذا الجزءَ من الدّماغِ يؤدّي مَهامَّ التَّخطيطِ والتَّنظيمِ قبلَ الشُّروعِ بالأفعال، فنلاحظُ أنَّ الإنسانَ خلالَ فترةِ نموِّ هذا الجزءِ من دماغِه يُطوِّرُ قدرةً أفضلَ على التَّفكيرِ السَّليمِ والسَّيطرةِ على الدَّوافِع عندَ إطلاقِ الأحكام.

وأثبتَت الدّراساتُ - الّتي أُجريَت من خلالِ التَّصوير بالرَّنين المغناطيسي (MRI) - أنَّه على الرَّغمِ منْ اكتمالِ نموّ معظمِ الدّماغِ في سنِّ العاشرةِ لدى الأطفال؛ لكنَّ منطقةَ الفصِّ الجبهيّ تحديدًا لا تَتشكَّل إلّا بعدَ بلوغِ الطّفلِ سنَّ الثَّانيةَ عشرة، وإلى ذلكَ الحينِ لا يستطيعُ هذا الجزءُ العملَ على نحوٍ مُتطوَِّرٍ وكاملٍ؛ لأنَّ الفصَّ الجبهيّ يحتاجُ إلى كثيرٍ منَ التَّدريبِ وإعادةِ التَّصميمِ قبلَ تمكُّنِ الدّماغِ منَ العملِ كدماغِ البالِغ، ولذلكَ يعتمدُ المراهقون أكثرَ من البالغِين في عمليَّةِ التَّفكيرِ على جزءٍ آخرَ منَ الدّماغ يسمَّى "اللوزة الدماغية"  (amygdala)**، وهذا الجزءُ مرتبطٌ بالعواطفِ والسُّلوكِ الغريزيِّ عندَ الاِنسان.  

وهنا يأتِي دورُ عمرِ المراهقة الذي تبدَأُ فيهِ عمليَّةُ التَّدريبِ على التَّحليلِ المنطقيّ بكثافةٍ، وتنتهِي هذه العمليَّةُ على نحوٍ كاملٍ في منتصفِ عمرِ العشرين، ويمكنُنَا تخيُّلُ عمليَّةُ النّموِّ وإعادةِ التَّصميمِ كنموِّ جذورِ الشَّجرةِ؛ إذْ تبلغُ الخلايا العصبية - الموجودةُ في الفصِّ الجبهيّ أو ما يُعرَفُ بالمادّة الرّمادية (the grey matter)*** - ذروةَ نموِّها وتمتلكُ أنسجةً أكثرَ في الطّفولة؛ في عمرِ الثَّانيةَ عشر، وبعدَها - في  سنّ المراهقة - يُقلِّمُ الدماغُ هذه الجذورَ-المادَّةَ الرمادية، ويُشكّلُها إلى حينِ الوصولِ إلى عمرِ البُلوغ.

وقدْ تُوحي هذهِ الدّراسةُ إلى البعضِ بأنَّه من الأفضلِ منعُ المراهقين منَ المشاركةِ بأيَّةِ تجربةٍ تتطلَّب منهُم اتّخاذَ قراراتٍ مُهمَّةً ومسؤولَة، ولكنْ على العكسِ تمامًا؛ تُنبِّهنا الدّراساتُ إلى أهميَّةِ نموّ الدّماغِ في عمرِ المُراهقة، وإلى أهميَّة تدريبِ المراهِق على كيفيَّة اتّخاذِ قراراتٍ سليمَةٍ أيضًا.

وأوضحتِ الدّراساتُ - أيضًا - أنَّ أهميَّة هذهِ الفترةِ العمريَّة تكمنُ في أنَّها سَتبنِي طريقةَ التَّفكيرِ الّتي سيعتمدُ  الفردُ عليها فِي حياتِه. وتُعَدُّ التَّجاربُ الّتي يمرُّ بها الإنسانُ في المُراهقةِ شديدةَ الأهميَّة؛ لأنّ دماغَ المراهقِ يُشذّبُ الأجزاءَ غيرَ المُستخدَمة لديه في قسمِ التَّفكيرِ والتَّخطيطِ، ويُعزّزُ في المُقابلِ الأجزاءَ الأُخرى الأكثرَ استخدامًا؛ فتكونُ هذهِ طريقةُ الدّماغِ كي يُصبحَ أكثرَ كفاءةً معَ الوقت، وتُسمّى (use it or lose it)؛ أيْ أنَّ الدّماغَ يتخلَّصُ من الخلايَا الّتي يقلُّ استخدامُها تدريجيًّا معَ نموّ المُراهق.

ويمكنُنا النَّظرُ إلى قدراتِ جزءِ الفصِّ الجبهيِّ منَ الدّماغ على أنَّهُ بمثابةِ عضلةٍ؛ إنْ لمْ تُدرِّبْهَا وتستخدمْهَا فسوفَ تضعُفُ وتفقدُ قوَّتَها، وهذا يُوضِحُ أنَّ النَّشاطاتِ الّتي يشاركُ بها الإنسانُ في عمرِ المُراهقَة ستساعدهُ في تدريبِ هذهِ العضلةِ، وبذلك ستحدِّدُ  طريقةَ تفكيرِه عندَ سنِّ البلوغ.

ولهذا علينَا التَّفكيرُ بأهميَّةِ نشاطاتِ المُراهقين، والتَّجاربِ الّتي يمرُّونَ بها؛ فيكونُ لصالحِ المراهقِ أنْ يُكوِّنَ طريقةَ تفكيرِه بالارتكازِ إلى الخبراتِ والنَّشاطاتِ المختلفةِ؛ ما بينَ الرِّياضةِ والموسيقا والعملِ والعلاقاتِ الاجتماعيَّة.

الحاشية:

* الفص الجبهي: هو جزء من الدماغ مسؤول عن التخطيط والمنطق والحركة وبعض من التكلم و والذاكرة البعيدة وغيرها، ويتموَضع في الجزء الأمامي لكل من نصفي الكرة الدماغية.

**  اللوزةُ الدّماغية: هي جزءٌ من الدّماغِ تقعُ داخلَ الفصّ الصّدغيّ من المخّ، وتؤدّي دورًا رئيسًا في تقييمِ العواطفِ والإدراكِ الحسّيّ البشري.

***  المادّة الرّماديّة: تتكوّن من الخلايَا العصبيَّة؛ وهي أحدُ الأجزاءِ الأساسيَّة في الجهازِ العصبيّ المركزي.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

مصدر الحاشية:

هنا