كتاب > روايات ومقالات

مراجعةُ روايةِ الغابةِ النرويجيّة للكاتب هاروكي موراكامي.

استمع على ساوندكلاود 🎧

يبدأُ "هاروكي موراكامي" روايتَه - والتي سُمِّيَتْ باسمِ واحدةٍ من أغاني فرقة البيتلز وهي Norwegian Wood - بحواراتٍ ذاتيّةٍ (مونولوجات) وذكرياتٍ عفويّةٍ جداً؛ تتدفّقُ في ذهنِ مسافرٍ على متنِ طائرة، إذ يسترجعُ بها أحداثَ حياتِه السابقةِ التي تَسِمُها لحظاتٌ استثنائيّةٌ من الصداقَةِ والفراق. ويتأمّلُ المسافرُ هذه الذكريات، ويتفحّصُها، ويعيدُ تقييمَها وتحليلها، فهي لم تكنْ مجرّدَ أحداثٍ عابرةٍ، بل كانتْ أحداثاً مفصليّةً عجزتْ السنونُ الطويلةُ عن محوِ آثارها وطيِّها، ويُدعى هذا الشخصُ الغارقُ في ذكرياتِه بـ "تورو واتانابي"؛ وهو شابٌّ يابانيٌّ في عامهِ الثلاثين، قد عاشَ حياتَه في اليابان، ودرسَ الدراما والمسرح، ولعلّه الأمرُ الذي سمحَ لمؤلفِ الروايةِ ببناءِ هذه الشخصيةِ على أساسِ الانفتاحِ الذي عاشتْه اليابان بعدَ الحربِ العالميّةِ الثانية؛ إذ إنَّ بطلَنا يَهوى سماعَ الموسيقا الغربيَةِ كموسيقا فرقةِ "البيتلز" التي يُفضِّلها، ويحبُّ رواياتٍ أثّرتْ به أيّما تأثيرٍ كروايةِ الجبلِ السحريّ للكاتب "توماس مان"، والتي ما فتئ "واتانابي" يقرؤها طيلةَ مسارِ الرواية.

ومما لا شكَّ فيه أنّ الانفتاحَ من أهمِّ سماتِ الفنّانين والمهتمِّينَ بالمسرح والأدبِ العالميَّين، وهو ما أزعجَ محبِّي الأدبِ اليابانيّ التقليديّ الذي لا يمازجه التأثيرُ الأجنبيُّ إطلاقاً، فيصوِّرُ الكاتبُ اليابانَ على أنها قوقعةٌ منغلقةٌ عن العالمِ الى حدٍّ ما، ولكنْ؛ لكلِّ اتجاهٍ مزاياه وأسبابه، فقد بنى موراكامي روايتَه هذه على واقعٍ ملموس، طارحاً مشكلاتٍ تحيطُ بأفرادِ الدولِ الرأسماليّةِ كاليابان، إذ يعملُ الناسُ طوالَ النهار، وتنعدمُ العلاقاتُ الإنسانية؛ باستثناءِ بعضِ الصداقاتِ المؤقّتةِ بين شُبّانٍ تجمعُهم طبيعتُهم وأسلوبُ حياتهم المندفعُ، وهو ما عبّر عنه "واتانابي" مُستهجِناً عندما كان يعتني بوالدِ "ميدوري" المريضِ، والذي كان بجوارِه حين لفظَ أنفاسَه الأخيرة. ولم يحاولِ الكاتبُ تجميلَ أو تغييرَ الأحداثِ التي تُعَدُّ نتاجاً منطقيّاً لطبيعةِ الشخصيات، و لطبيعةِ العصرِ و المجتمعِ الذي يتناوله العمل.

ويعيشُ "واتانابي" في سكنٍ جامعيٍّّ للشبّان، و يدرسُ الدراما في الجامعةِ كما أسلفنا، ويتعرَّفُ - بحكمِ سكنِه ودراسته - على شخصياتٍ متعددةٍ مختلفةٍ بطباعها، ابتداءً من رفيقِ السكنِ المنظَّمِ جداً والنظيف، والذي يمارسُ الرياضةَ بانتظامٍ ويدرس بجدّ، وصولاً إلى الرفيقِ الموسرِ الماجنِ الصارمِ الواقعي جدّاً والمثّقف، والذي يفتحُ لـ "واتانابي" بابَ المغامراتِ الليليةِ التي نتشاركها مع أبطالِ الرواية. وأمَّا زميلتُه في الجامعةِ والتي تُدعى "ميدوري" فهي جريئةٌ، ومحبّةٌ للطبخ، وكارهةٌ للشيوعية. ويبدو الكاتبُ كما لو أراد لنا - بانتقادِه الشيوعيةَ على لسانِ ميدوري - أن يُبدِي رأيَه في فسادِ بعضِ الأفكارِ الأجنبيّةِ الوافدةِ إلى المجتمعِ اليابانيّ، والتي ينغمسُ فيها الشبابُ في كثيرٍ من الأحيان؛ رغبةً منهم في مواكبةِ التيار العالميّ الشائعِ لا أكثر.

ويعاني "واتانابي" طيلةَ القصة من أمرَين اثنين؛ أوّلُهما عناءُ العلاقةِ غيرِ المستقرةِ التي تجمعُه وصديقةَ الطفولةِ "ناوكو"، والتي تعيشُ في مركزِ إعادةِ تأهيلٍ نفسيَ، فتتطوّرُ علاقةُ الصداقةِ القديمةِ بينَهما إلى حاجةٍ عاطفيّةٍ جارفةٍ تتجلّى بصورةِ حبٍّ وهميٍّ بعيدِ المنال، ومرافقٍ لشعورٍ بالذنب، وأمَّا الأمرُ الثاني فهو انتحارُ صديقِ طفولتِه "كيزوكي" في ظلِّ ظروفٍ غريبةٍ؛ فيحاولُ واتانابي طوالَ فصول الروايةِ ارتجالَ تفسيراتٍ مختلفةٍ لها. ونشهدُ في العمل قصصاً جانبيةً استثنائيةً وفريدةً من نوعها أيضاً، وهي لشخصياتٍ ثانويّةٍ يلتقيها "واتانابي" صدفةً. ويمكن عَدُّ العملِ بأنه عملٌ يعجُّ بالأسئلةِ الوجوديّةِ التي تتبادرُ إلى ذهنِ كلِّ فردٍ منّا، مع طرحِ إجاباتٍ تختلفُ باختلافِ طبائعِ الشخصياتِ التي تسألُها وتجيب عنها، وربَّما يحاولُ الكاتبُ - بهذه الطريقةِ - أن يخبرنا بأنَّا جميعاً نملكُ التساؤلات ذاتها عن الحياةِ؛ بغضِّ النظرِ عن تفاوتِ ثقافتِنا وطبائعِنا. وإنَّ أجملَ ما في العملِ أنَّه يضعُ القارئَ في فضاءٍ شاسعِ يعجُّ بالفنونِ بأشكالِها كافّةً، ليخرجَ القارئُ بقائمةٍ طويلةٍ من أسماءِ الأغاني والمقطوعاتِ الموسيقيّةِ والروايات والكُتّاب، ويأخذَ لمحةً عامةً إلى اليابان، فيتعرّفَ على أطباقِها الشهيرةِ وطُرُقاتِها وقطاراتِها، وهو ما يكوّنُ العنصرَ السحريُّ في أعمالِ "موراكامي" عامّةً.

وأمَّا فيما يخصُّ النقاطَ الأساسيّةَ التي يحاولُ الكاتبُ توضيحَها؛ فأهمُّها هو عدمُ وجودِ مبدأٍ أخلاقيٍّ مُطلَقٍ في الحياة، فما قد يُعدُّ غيرَ أخلاقيٍّ في ظرفٍ من الظروف قد يصبحُ أخلاقياً في ظرفٍ مغاير، وهذا بالطبع ما تفرضُه الطبيعةُ البشريّةُ وانسيابُ الحياةِ العشوائيّ، والذي قد يبلغُ أحياناً بعشوائيّته ما يدعو الى العجب!

والأمرُ الأهمُّ الذي يُحاولُ "موراكامي" إبرازَه هو سطوةُ الموتِ على الأحياء، وكيف يمكنُ له أن يؤثّرَ إلى حدٍّ بعيدٍ في قراراتِنا الأكثرِ أهمّيةً، وأنَّه لا ينفعُ رجاءٌ ولا مواساةٌ ولا مهربٌ إذا وقعَت المصيبة، وأنَّ مواجهةَ الأمرٍ لهي الشيءُ الوحيدُ الذي بمقدورنا فعلُه في سبيل خوضِ تجربةٍ ما والتعلّمِ منها. وتفرضُ الحياةُ علينا أن نسيرَ مع تيّارِها الطبيعيّ الذي لا طائلَ من معاداتِه أيضاً؛ لأنّ محاربتَه لن تُنتِجَ سوى مأساةٍ أخرى أكبر، وهو ما حدثَ مع "ناوكو" وأورثَها عُقداً نفسيةً وعقليةً أودتْ بها إلى الانتحار إثرَ تأثرها المفرطِ بانتحارِ "كيزوكي" وانتحارِ أختها.

ويطرحُ "موراكامي" أسئلتَه عن مفهومِ الخيانةِ في العلاقاتِ المختلفة؛ إمَّا عن طريقِ حواراتٍ واضحةٍ على لسانِ شخصيّاته، وإمّا عبرَ أفعالٍ غيرِ متوقَّعةٍ مثلَ العلاقةِ الجسديّةِ بـ "رايكو" صديقةِ "ناوكو"، إضافةً إلى محاولتِه تسليطَ الضوءِ على الوحدةِ المهيمنةِ على حياةِ اليابانيين، والتي قد تُفضي إلى الانتحار في نهاية المطاف.

وقد عكستْ رتابةُ الأحداثِ مشاعرَ الوحدةِ لدى "موراكامي" بأحسنِ صورة؛ إذ لا يجدُ القارئُ أيّةَ مشكلةٍ في الإطالةِ والتكرارِ، ولا في الوصفِ المفصّلِ للطعامِ والشرابِ والمواصلاتِ، وغيرِها من التفصيلات الأخرى، بل على العكسِ من ذلك؛ فقد خدمَ هذا الإسهابُ العمل، إذ إنَّ إبرازَ حياةِ الرتابة التي يحياها "واتانابي" قد عزّز إيصالَ رسالةِ "موراكامي" إلى القارئ، فيشعر الأخيرُ بمللِ حياةِ واتانابي وتكرارِها قبل أن يصرّحَ بذلك بطلُ الرواية. وأمَّا فيما يخصُّ تعلُّقَ "واتانابي" بِـ "ناوكو"؛ فقد بدا تعلُّقاً بالأثرِ المتبقّي من صديقِه المنتحرِ "كيزوكي" أكثرَ منه حُباً بالفتاةِ ذاتِها، وهو ما يُبيّنُ لنا كيفَ يمكنُ للانفعالاتِ العاطفيةِ أن تعقِّدَ الأمور، وتخلطَ الأوراقَ، وتمحوَ كلَّ الحدود.

وقد أنقصَتْ نهايةُ العملِ حظوتَه لدى القُرّاء، وذلك بسببِ النهايةِ الغريبةِ وغيرِ الصريحةِ تماماً، وتبقى العفويةُ في السردِ أكثرَ الأمورِ المُحبَّبةِ في رواياتِ "موراكامي"، ونَجِدُ أنَّ تشابكَ الأحداثِ بطريقةٍ طبيعيّةٍ يمنحُ القارئَ إحساساً بأنّه ماثلٌ أمامَ صديقٍ يتلو ذكرياتِه كيفما اتفق، ودون مراعاةٍ للقواعدِ المعروفةِ في السرد والمَنوطةً ببنودٍ مرتّبةٍ متتاليةٍ قد تجعلُ العملَ يبدو متكلِّفاً لدرجةِ قطعِ التواصلِ الطبيعيِّ بينَ المؤلِّفِ والقارئ.

وكانتِ الترجمةُ إلى العربيةِ من قِبلِ سعيد الغانمي جيّدةً، وقد تحوّلتْ الروايةُ عامَ 2012 إلى فيلمٍ من إخراجِ اليابانيّ "تران آن هانغ".

الفيديو الترويجيُّ للفيلم على الرابط الآتي: هنا

أدب ياباني

ترجمةُ:  سعيد الغانمي