الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة

مقدمة إلى الميثولوجيا السورية

"سورية مهد الحضارات"، غالباً ما نتفوه بهذه العبارة دون أدنى إدراك للمعاني العميقة التي تنطوي تحت هذه الجملة البسيطة.

تكمن أهميّة هذه الحضارات القديمة، السومرية والبابلية والكنعانية، بأنّها أولى الحضارات البشريّة المعروفة. يلتمس فيها الباحث الفكر الإنسانيّ بأبسط أشكاله، هذا الفكر الّذي تطوّر شيئاً فشيئاً عبر عوامل الاحتكاك الحضاريّ والتفاعل المجتمعيّ ليشكّل القاعدة الصّلبة الّتي بنيت عليها العديد من الدّيانات المحلّيّة والعالميّة.

لا نستطيع هنا أن ننكر أنّنا غالباً ما وقعنا في مغالطات الدّراسة الهيكليّة والتّفصيليّة للدّيانات السّماويّة الثّلاث من دون أدنى إدراكٍ لتجارب روحيّةٍ وحضاريّةٍ غنيّةٍ جداً بالفكر والاستقصاء الرّوحيّ، ولا نستطيع أبداً تشكيل صورةٍ كاملةٍ عن مغامرة العقل البشريّ الباحث عن البعد الرّوحيّ وماهيّة الدّين دون الدّراسة العميقة والمتمعّنة في تاريخ أجدادنا القدماء وما حفر على الألواح القديمة من فكرٍ بشريٍّ يعكس أبسط النّزعات الإنسانيّة الصّادرة عن عقولٍ بدائيّةٍ غير ملطّخةٍ بالأفكار.

إيماناً منّا بالإرث الحضاريّ العظيم للشّعب السّوريّ، وباعتبار أنّ سوريّة وبلاد الرافدين مهد الحضارات القديمة، إيفاءً منا بسؤوليّاتنا أمام الفكر والحضارة الإنسانيّتين قرّر فريق الفلسفة في "الباحثون السوريون" البدء بسلسلةٍ جديدةٍ تبحث في أساطير الحضارات السّوريّة القديمة، وتطوّر الفكر الفلسفيّ الرّوحيّ عبر دراسةٍ منهجيّةٍ لأساطير حضارات سوريّة وبلاد الرافدين. إنّ الدّراسة التّاريخيّة الفلسفيّة لأولى الدّيانات التّاريخيّة أمرٌ ليس سهلاً، فهذه الدّراسة تتطلّب فهماً جغرافيّاً وتاريخيّاً لطبيعة المنطقة، وفهماً للدّوافع الإنسانيّة من مشاعر وحاجاتٍ نفسيّةٍ للدّين. ونأمل أن تكون النّتيجة على مستوى تطلعاتنا، إدراكاً أعمق لمسيرة العقل البشريّ، ورحلةً منهجيّةً ممتعةً في ثنايا الرّوح الواحدة.

لا بدّ قبل أن نبدأ الدّراسة التّفصيليّة للحضارات القديمة والأساطير الأولى أن نمرّ سريعاً على ماهيّة الأسطورة وأبعادها الفلسفيّة والدّينيّة، كما أبعادها النّفسيّة في فكر الإنسان القديم. وهنا لا يستطيع الباحث في هذه المواضيع الخروج بأفضل ممّا خرج به الباحث والمفكّر السّوريّ فراس السواح في تحليله لواقع الإنسان الأوّل في كتابه "مغامرة العقل الأولى". كيف أصبحت هذه الأفكار أساطير وأنّى أصبحت ما هي عليه.

بعيداً في التّاريخ السّحيق، "رفع الإنسان البدائيّ رأسه إلى السّماء فرأى نجومها وحركة كواكبها، وأدار رأسه فيما حوله فرأى الأرض وتضاريسها ونباتها وحيوانها. أرعبته الصّواعق، وخلبت لبّه الرّعود والبروق. داهمته الأعاصير والزّلازل والبراكين ولاحقته الضّواري. رأى الموت وعاين الحياة. حيّرته الأحلام ولم يميّزها تماماً عن الواقع. ألغازٌ في الخارج وأخرىً في داخله. غموضٌ يحيط به أينما توجّه وكيفما أسند رأسه. وفي لحظات الأمن وزوال الخوف، كان لدى العقل متّسعٌ للتّأمّل في ذلك كلّه. لماذا نعيش؟ لماذا نموت؟ لماذا خلق الكون وكيف؟ من أين تأتي الأمراض؟ إلى آخر ما هنالك من أسئلةٍ طرحت نفسها عليه، كما تطرح نفسها على طفل العصر الحديث. كان العقل صفحةً بيضاء لم ينقش عليها شيءٌ، عضلةٌ لم تألف الحركة خارج نطاق الغريزة وبعد حدود ردّ الفعل. ومن أدواته المتواضعة هذه، كان عليه أن يبدأ مغامرةً كبرى مع الكون، وقفزةً أولى نحو المعرفة، فكانت الأسطورة. كانت كلّ شيءٍ للإنسان، كانت تأمّلاته وحكمته، منطقه وأسلوبه وقانونه، انعكاساً خارجياً لحقائقه النّفسيّة والدّاخليّة. فالأسطورة نظامٌ فكريٌّ متكاملٌ، استوعب قلق الإنسان الوجوديّ، وتوقه الأبديّ لكشف الغوامض الّتي يطرحها محيطه، والأحاجي الّتي يتحدّاه بها التّنظيم الكونيّ المحكم الّذي يطرحها محيطه. إنّها إيجاد نظامٍ من لا نظام، وطرح الجواب على ملحاح السّؤال، ورسم لوحةٍ متكاملةٍ للوجود، إنّها مجمع الحياة الفكريّة والرّوحيّة للإنسان القديم.

الأسطورة حكايةٌّ مقدّسةٌ، يلعب أدوارها الآلهة وأنصاف الآلهة، هي سجلّ أفعال الآلهة، تلك الأفعال الّتي أخرجت الكون من لجّة العماء، ووطّدت نظام كلّ شيءٍ قائمٍ. الأسطورة حكايةٌ تقليديّةٌ، بمعنىً أنّها تنتقل من جيلٍ إلى جيلٍ بالرّواية الشّفهيّة ممّا يجعلها ذاكرة الجماعة الّتي تحفظ قيمها وعاداتها وطقوسها وتعطيها القوّة المسيطرة على النّفوس".

إنّ دراساتنا لأساطير الإنسان الأوّل الّتي شكّلّت الأرض الخصبة الّتي بنيت عليها الدّيانات المختلفة تضعنا أمام تساؤلٍ مصيريٍّ، ذلك التّساؤل الّذي ناجى به أحد المتصوّفين منّا ربّه: (من منّا اقتحم الصّومعة على صاحبه؟) أي هل خبرة الإنسان الدّينيّة هي حصيلةٌ لإفصاح القدرة الإلهيّة عن مقاصدها؟ أم هي كدحٌ من الإنسان لتلمّس مقاصد القدرة الإلهيّة؟ وهنا يجد العقل نفسه أمام معضلةٍ كبيرةٍ ليدخل في طريقٍ طويلٍ باحثاً عن وحدة التّجربة الرّوحيّة.

بمتابعتك لسلسلتنا عزيزي القارئ سوف تحسّ بوحدة التّجربة الرّوحيّة للإنسان، وبالأبعاد الدّينيّة المتجذّرة في النّفس البشريّة. خيرٌ لي ها هنا أن أقتبس ما قاله اليونانيّ كزانتزاكس في مذاكرات المشهد النابض:

"توقّفنا بين خرائب القصر القديم قرب عمودٍ مربّعٍ من الجصّ المصقول على قمّته العلامة المقدّسة منقوشةً: الفأس ذات الحدّين. ضمّ الأب كفّيه وحنى ركبتيه لحظةً ثمّ حرّك شفتيه وكأنّه يصلّي. استغربت وسألته: أتصلّي؟! فقال: طبعاً يا صديقي الشّاب، كلّ شعبٍ وكلّ عصرٍ يمنحه الله قناعه الخاصّ به. ولكن وراء الأقنعة كلّها في كلّ عصرٍ وفي كلّ عرقٍ يبقى الله هو ذاته، الله الدائم الّذي لا يتغير. إن لدينا الصّليب شارةٌ مقدّسةٌ لنا وأجدادك الأقدمون في كريت كانت لهم الفأس ذات الحدّين. لكنّني أنحّي جانباً هذه الرّموز الفانية وأتحسّس الله وراء الصّليب ووراء الفأس ذات الحدّين، أتحسّسه وأنحني له احتراما".

خلف الهلال والصّليب والفأس ذات الحدّين، من الحركة الّتي انفتقت من السّكون في ثنايا الأنيوما ايليش، من الرّوح الأمّ لتعامة ونمو ونار مردوخ، من عشتار روح الخصوبة إلى أعماق أوروك.

ترقبونا في رحلة مثيرة في أعماق الفكر الإنساني.