كتاب > روايات ومقالات

مراجعةُ رواية: الخطة اللانهائيةِ لـِ

بينَ الرّحلاتِ الزمنيّةِ والمكانيّة؛ وبينَ التنقّل والثبات؛ وبين التغيير والاستيطان؛ تخطُّ "إيزابيل الليندي" روايتَها "الخطة اللانهائية" في سرديّةٍ تعوّدْنا عليها في كتاباتها دوماً.

تتّصفُ الروايةُ بطابعٍ سرديٍّ يقصُّ سيرةَ جيلَين من عائلةِ "ريفز" الأمريكيّةِ وما يُحيطُ بهذه العائلةِ من شبكاتِ تواصلٍ اجتماعيّةٍ نشأَتْ برحيلِهم المتكرّرِ وصولاً إلى ثباتِهم واستيطانِهم في الولايةِ الأمريكيّةِ كاليفورنيا في وقتِ ما بعدَ الحربِ العالميّةِ الثانية.

تتّصفُ البدايةُ بالواقعيّةِ، وهو ما يُعدُّ تغييراً بطرائقِ السردِ التي تتبنّاها "إيزابيل الليندي" في أدبِها والذي اتّخذَ من الواقعية السحرية شكلاً له كما في "بيت الأرواح"؛ إذ تبدأُ الكاتبةُ روايتَها بالحديثِ عن عائلةِ ريفز المتنقّلةِ، مبتدئةً بالوالدِ الذي يصيغُ خُطَبَهُ الدينيةََ على أنَّها الخطة اللانهائية، ولا تلبثُ العائلةُ أن تستقرّ لاحقاً في "باريو" بسببِ مرضِ الأبِ ريفز، وهنا تبدأ "الليندي" بتسليطِ الضوءِ على المجتمعاتِ اللاتينيّة في الولايات المتحدة الأمريكية عبرَ علاقاتِ العائلةِ ريفز - ولا سيّما الابن "غريغوري" - مع الحيّ اللاتينيّ، وعلاقاتِ جيرانِهم "عائلةِ موراليس" وابنتِهم "كارمن" بهم و بـِ "غريغوري" في مزاوَجةٍ صُوَريةٍ للامتزاجِ الأمريكيّ- اللاتينيّ ودورهِ في تشكيلِ مجتمعاتِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكية.

وتتّخذُ الروايةُ لاحقاً من كلٍّ من غريغوري وكارمن محوراً لها على نحوٍ مُنفصلٍ، وتركّز على طريقةِ كلٍّ منهما في شقِّ حياتِه في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى الصعوباتِ والتحدياتِ التي سيواجهانها كأبيضَ ولاتينيّةٍ في هذه المجتمعاتِ خلالَ رحلتِهم بحثاً عن الذات التي ستؤطِّرُها العديدُ من العثَراتِ الاجتماعية وفي مقدّمتِها العنصريّةُ بأشكالِها كافّةً في الولايات المتحدة الأمريكية.

وفي القسمِ الأهمِّ من الروايةِ تبدأُ الكاتبةُ بتسليطِ الضوءِ مرّةً أُخرى على حربِ فييتنام عندَ مضيّ بطلِ الروايةِ غريغوري ريفز إلى الحرب، وهنا يتجلّى لنا الجزءُ الأجملُ من الرواية، فمناجاةُ غريغوري الدائمة لنفسه - والتي دائماً ما تتنقّلُ "الليندي" في أثنائها من صوتِ الراوي الأوّلِ إلى ذاتِ غريغوري - تظهرُ لنا وحشيّةَُ النفسِ الإنسانيةِ في سبيلِ النجاة من حربٍ مجنونةٍ تحدّدُ الرصاصةُ فيها الديمقراطيّةَ الكُبرى: "لكننا - جميعاً - في المعركةِ متساوون، لا يهمُّ الماضي، والطّلقةُ هي التجربةُ الديمقراطيةُ الكُبرى. لسنا أفراداً، نحن في هذا المسرحِ المأساويّ آلاتٌ في خدمةِ الوطنِ الخُراءِ. يفعلُ الواحدُ منّا أيّ شيءٍ كي يبقى حيّاً، أشعرُ بالراحةِ حين أقتُلُ لأنني أبقى حياً هذه المرةَ على الأقل".

تتجسّدُ في هذه المناجاةِ المؤلمةِ كلُّ مآسي الحروبِ عبرَ التاريخِ البشريِّ التي أصابت هذه الحضارةَ الواعيةَ الملعونة، فالبقاءُ هو كلمةُ السرِّ لأولئك الجنودِ الذين يحملون البنادقَ مواجهِين بعضَهم بعضاً، وهكذا يتمثّلُ انحطاطُ الحضارة الإنسانيُّ في أوضحِ صوره.

وتحملُ هذه الروايةُ في ثناياها عبقَ الرائحةِ اللاتينيةِ المختلِطةِ بترابِ أرضِ العمّ توم، وهي ثنائيّةٌ قليلاً ما يُحكى عنها؛ إذ إنّ التركيزَ دوماً يتّجه صوبَ الأمريكيين من أصولٍ إفريقيّة، وما يعانونه في حياتهم من تمييزٍ عنصريّ، في حين أنَّ اللاتينيين يحملون في ثنايا أيامِهم في هذا البلدِ مآسٍ عنصريّةً أيضاً لم يُرفَع عنها النِّقابُ كما يجب، وهنا يأتي دورُ "إيزابيل الليندي" لترسمَ لنا ثنائيّةََ الأبيض-اللاتينيّ وتُضمِّنَه في هذه الروايةِ الفريدةِ من نوعِها والبديعةِ في كلٍّ من تفاصيلها ومشكلاتِ بطلَيها الجمَّة.