البيولوجيا والتطوّر > كائناتٌ رهن تجاربنا

كائناتٌ رَهنُ تجارِبنا؛ مُقدِّمة.

يعودُ الفضلُ في العديدِ منَ الاكتشافاتِ الطبيةِ المهمةِ إلى أبحاثٍ أُجريتْ على كائناتٍ حيةٍ غيرٍ البشرٍ بوصفِها نماذجَ للدراسةِ؛ إذْ تُستخدمُ الكائناتُ الحيةُ لتساعدَ الباحثينَ على مراقبةِ الآلياتِ الحيويةِ التي تحدثُ  ضمنَ العضويةِ الحيّةِ، لِفهمِها بعُمقٍ وربطِ الأمراضِ بالشذوذاتِ التي تصيبُ هذهِ الآلياتِ؛ كي يُصبحَ التعاملُ معهَا أسهلَ ويغدو ممكناً أن نطوّرَ علاجاتٍ أكثرَ فعاليةً وأقلَّ ضرراً بالبيئةِ والأحياءِ وخاصةً البشرَ، وعادةً ما تكونُ هذهِ الكائناتُ سهلةَ الرعايةِ والتنسيلِ ضمنَ ظروفٍ مخبريةٍ ملائمةٍ، ويتكاثرُ أغلبُها بأعدادٍ كبيرةٍ وضمنَ فتراتٍ زمنيةٍ قصيرةٍ، ما يجعلُها نماذجَ ممتازةً للأبحاثِ الشائعةِ في هذهِ الأيامِ؛ كالأبحاثِ الجينيةِ.

  ويُنتقى الكائنُ الحيُّ لكلِّ تجرِبةٍ بِناءً على عدةِ عواملٍ؛ كالحجمِ والبنيةِ التشريحيةِ والتشابهِ بالعملياتِ الحيويةِ التي تُدرَسُ معَ الإنسانِ، فضلاً عن القدرةِ على الترويضِ وإمكانيةِ تطبيقِ بعضِ التقنياتِ المطلوبةِ؛ للإجابة عن إشكاليةِ البحثِ على هذا الكائنِ، والمعيارُ الأخيرُ هوَّ أهمُّها؛ فنلاحظُ  مثلاً تراجعَ استخدامِ جنينِ الدجاجِ بسببِ عدمِ القدرةِ على تطبيقِ العديدِ من طرائقِ التعديلِ الجينيِّ عليهِ.

  وبالطبعِ؛ لا يخلو الأمرُ من بعضِ الحالاتِ الاستثنائيةِ التي كانَ استخدامُ كائنٍ معيّنٍ فيها محضَ صدفةٍ، إمَّا لتوافرِهِ في أثناءِ البحثِ، وإمّا أنَّ بعضَ خصائصِه التي تفيدُ في مجالٍ معينٍ قد اكتُشفَت في أثناءِ استخدامِه في أبحاثِ مجالٍ مختلفٍ، ومثالٌ على ذلكَ؛ استخدامُ خنزيرِ غينيا في دراساتٍ تتعلقُ بالبِنى التشريحيةِ، ولقاحاتِ بعضِ الأمراضِ، وحتَّى الأبحاثِ التي أدَّتْ إلى اكتشافِ فيتامين C لتوافرِه آنذاك فقط؛ ولكن استُبدِلَ به لاحقاً الفئرانُ والجرذانُ؛ بسببِ طولِ فترةِ حملهِ وقلةِ ولاداتِه؛ وخاصةً بعدَ أنْ أصبحَ الطابعُ الجينيُّ يغلبُ على معظمِ الدراساتِ.

   وتاريخياً؛ استُخدِمتِ الحيواناتُ على نحوٍ متكرّر عبرَ تاريخِ الأبحاثِ الطبيةِ الحيويةِ، فقدْ أجرى العلماءُ الإغريقيونَ كأرسطو Aristotle (384-322 ق. م) وإيراسيستراتوس Erasistratus (304-258 ق. م) تجارب على الحيواناتِ الحيةِ، وكانَ للعالمِ الإغريقيِّ غالين Galen  (129 -199 م) أثرٌ كبيرٌ في تاريخِ الطبِ عبرَ التجاربِ التي أجراهَا على الحيواناتِ، مُحسِّناً فهمَنا في مجالاتِ التشريحِ والفيزيولوجيا وعلمِ الأمراضِ.

وعربياً؛ كانَ العالمُ العربيُّ ابنُ زهر- الذي عاشَ في القرنِ الثاني عشرَ- أولَّ منْ اختبرَ الإجراءاتِ الجراحيةِ على الحيواناتِ قبلَ تطبيقِها على مرضى البشرِ.

  وحديثاً؛ بدأَ استخدامُ الكائناتِ الحيةِ في التجاربِ البحثيةِ منذُ أواخرِ القرنِ التاسعَ عشرَ؛ لفهمِ آليةِ بعضِ الأمراضِ المنتشرةِ آنذاك ومحاولةِ علاجِها، وتمثّلت أبرزُ الأحداثِ التي غيرتْ مجرى البشريةِ في اكتشافِ اللقاحِ ضدَّ الجدري Smallpox باستخدامِ الماشيةِ، ولقاحِ الكَلَبِ باستخدامِ الأرانبِ والكلابِ، ومعَ بدايةِ القرنِ العشرينَ؛ عُرِفَت المادةُ الوراثةُ وحُدِّدت طبيعتُها الكيميائية؛ باستخدام فيروس فسيفساءِ التبغِ، وابتُكِرتْ عمليةُ نقلِ الدمِ، واكتُشفَ الإنسولين باستخدامِ الكلابِ، وطُوِّرتْ مضاداتُ التخثرِ في الأرانب، ولقاحُ الكزازِ في الأحصنةِ، ولقاحُ الخناقِ في خنزيرِ غينيا، ودُرِسَتْ عمليةُ التركيبِ الضوئيِّ في طحالبَ خضراءَ وحيدةِ الخليةِ. وأمَّا في منتصفِ القرنِ العشرينَ فقد حدثتِ النقلةُ النوعيةُ الثانيةُ في تاريخِ البشريةِ - من الناحيةِ الطبيةِ - وهي اكتشافُ خصائصِ البنسلين بوصفه صادّاً حيويّاً في دراساتٍ أجريتْ على الفئرانِ، وتلا هذا الاكتشافَ تطويرُ لقاحِ شللِ الأطفالِ باستخدامِ الفئرانِ والقردةِ، والذي كانَ أوَّلَ خُطوةٍ في طريقِ إزالتِه تماماً؛ إذْ نلاحظُ في وقتِنا الحاليّ أنَّ شللَ الأطفالِ كادَ أن يختفي عن سطحِ الأرضِ نتيجةً لهذا اللقاحِ، إضافةً إلى الدراساتِ التي أُجريتْ على ذبابةِ الفاكهةِ وفطرِ الخميرةِ لفهمِ الجيناتِ عموماً، وتطويرِ طرقِ التلاعبِ الجينيِّ. ومعَ بداياتِ القرنِ الحادي والعشرينَ؛ توالتِ الاكتشافاتِ في العديدِ من مجالاتِ البحثِ الطبيِّ؛ وصولاً إلى اكتشافاتٍ نشهدُها في يومِنا هذا كالعلاجِ بالخلايا الجذعيةِ، والعلاجاتِ الجينيةِ، وأبحاثِ مرضِ ألزهايمر التي تُدرَس ضمنَ كائناتٍ حيةٍ.

 

  نترككمْ معَ سلسلةِ "كائنات رَهن تجاربِنا" التي نتحدثُ فيها عنْ أهمِّ الأحياءِ المستخدَمةِ في التجاربِ وأسبابِ استخدامِها ضمنَ مجالاتٍ معينةٍ دونَ غيرِها.

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا