الموسيقا > متفرقات

طقوسُ الرَّبيع The rite of spring

كتبَ "سترافنسكي" عام 1961م: "لم أتَّبِعْ في تأليفي عملَ (طقوسِ الربيع) أيَّ نظامٍ كان، بل كانَت هناك أُذني لِتساعدَني فحسبُ؛ إذ سمعتُ ودوَّنتُ ما كنتُ أسمع، لقد كنتُ [أنا] الوعاءَ الذي مرَّ العملُ عبرَه".

تُعَدُّ باليه "طقوس الربيع" علامةً فارقةً وثورةً حقيقيةً في تاريخ الموسيقا الحديثة مع أنَّ السيناريو يرتكزُ إلى تقليدٍ وثنيٍّ روسيٍّ تقدِّمُ فيه فتاةٌ نفسَها قرباناً إذ ترقصُ حتى الموت، وقد دُوِّنَت هذه القطعةُ قُبيلَ الحربِ العالميةِ الأولى والثورةِ البلشفيّة الروسية، وهذا ما جعلَها رمزاً لمرحلةٍ منَ الاختمارِ الفنِّي والعلميّ والفكريّ؛ إذِ استظلَّ المؤلفون بعدَها بظلِّها واقتدوا بمثالِها.

تعرَّضَ العملُ للعديدِ من المُحاكَمات خلالَ السنواتِ المئةِ الأُولى لَهُ، وبالأخصِّ بعدَ العَرضِ الأوَّل الذي كان فضيحةً مدويّةً؛ فقد أثارَ فيه رقصُ نيجينسكي Nijinsky المستفزُّ جوّاً من السُّباب والخِصام إلى الحدّ الذي كادت فيه الموسيقا ألَّا تُسمَع. وبعدَ ذلك؛ أصبحَتِ العروضُ الاستهلاليةُ الأُخرى على شفيرِ الهاوية، وأمَّا اليومَ فتُعَدُّ هذه المقطوعةُ جزءاً هاماً من ذخيرةِ الأوركِسترا العالميَّةِ، إذ تواجِهُ أمراً يختلفُ جذرياً عن المخاطرِ السَّابقةِ؛ ألا وهو خطرُ الوقوعِ في متاهةِ الأداءِ الروتيني الذي يجعلُ من قطعةٍ مكتوبةٍ لِتخلُقَ صدمةً في الأسماعِ تبدو آمنةً وسَلِسة.

جاءَت فكرةُ هذا العملِ عام 1910م عندما كان سترافنسكي مشغولاً بتأليفِ رائعتِه "طائر النار"، وألَّفَ بعدَها رائعتَه الأُخرى "بيتروشكا" قبلَ أن ينغمِسَ في العمل على "طقوس الربيع"، ويجدُرُ بالذِّكر أنَّ عالِمَ الآثار والفلكلور "نيقولاي روسريتش" قد ساهمَ في هذا العملِ عن طريقِ تزويدِ سترافنسكي بلوحاتٍ مختلفةٍ تمثِّلُ مشاهدَ من الشعائرِ القديمة.

وكانتِ الغايةُ من هذهِ المقطوعةِ أن تُشكِّلَ صدمةً؛ فالعنفُ الوحشيُّ الكامنُ فيها يتصادمُ معَ جمالياتِ المدرسةِ الانطباعيَّةِ؛ فقد خرَّبَ الانتقالُ الحادُّ بينَ الجُمَلِ الموسيقيةِ الانسيابَ السَّلِسَ في اللَّحنِ المُتَّبَعِ في منهج السمفونيةِ الجرمانيِّ التقليدي، وبهذا كلِّه؛ يمكنُ عدُّها مقطوعةً مبنيّةً وفقَ قالَبٍ تكعيبيٍّ يُماثِل - على نحوٍ ما - التكعيبيةَ الفنيةََ في فلسفةِ "بيكاسو" وَ"براك"؛ إذ تتداخَلُ المكوِّناتُ الموسيقيةُ بعضُها ببعضٍ، وتتفاعَلُ وتتراكَبُ على نحوٍ لا يخلو من الوحشيةِ، مُتحدِّيةً بذلك المنظورَ الموسيقيَّ والمنطقيَّ الذي سيطرَ على الآذانِ الأوروبيّةِ لقرونٍ.

وكانَ أعظمُ سلاحٍ تقلّدَهُ "سترافنسكي" في هذا الهجوم أحدَ موارِدِ الموسيقا الأساسيّةِ الذي وضعَهُ الموسيقيُّون الذين خلفوا "فاغنر" في ذيلِ أولويَّاتِهم؛ ألا وهو الإيقاع. وعلى الرَّغم من أنَّ إيقاعَ "سترافنسكي" ليسَ شديدَ الانضباطِ وَفقَ المعاييرِ الكلاسيكية، ولكنَّهُ مضبوطٌ وَفقَ طريقةٍ جديدةٍ تتطلَّبُ تجديداتٍ في التدوين الموسيقي لجعلِ ابتكارِ "سترافنسكي" قابلاً للعَزف.

ولجعلِ تركيزِ المُستمِعِ مُنصَبّاً على التلقّي الإيقاعي؛ استخدمَ "سترافنسكي" قرابةَ ثلاثةِ أنماطٍ لحنيةٍ بسيطةٍ من الفلكلور الليتواني على نحوٍ تترافقُ فيه تلكَ البساطةُ الظاهريةُ مع تآلفاتٍ لحنيةٍ ضخمةٍ  قد تُعَدُّ أصواتاً متنافِرةً في أسماع جمهورِ عام 1913م، وكان هذا الحالُ مماثلاً لأعمالِ بيتهوفن الأوركسترالية التي تسرقُ فيها أقسامُ الآلاتِ النفخيةِ والنحاسيةِ المقدِّمةَ من قسم الوترياتِ ذي الطبيعةِ الصوتيةِ الأكثر هدوءاً فيُهَيمنُ قسمُ الايقاع على كلِّ شيء.

وإنَّ تصميماً كهذا على خشبةِ المسرح لا يؤثرُ على الصوتِ فحسب، بل له تأثيرٌ فيزيائيٌّ على الجمهور أيضاً؛ إذ يشعرُ المرءُ بأنَّه يُساقُ في حالةٍ من الغضَبِ الإيقاعيّ الحانقِ كما لو أنَّ المشهدَ يجري في أحد النزاعاتِ القبلية.

ولم يراوِغْ "سترافنسكي" أو يحاوِلْ طرحَ هذه الإيقاعاتِ بتحايُلٍ أو سِريةٍ، بل خلافاً لذلك فقد كان يقَعُ الوصولُ إليها في أغلبِ الأحيان في انسجامٍ تامٍّ من قبل الأوركسترا الضخمة التي يَستخدمُها العمل، وفي الواقع؛ فإنَّ أحدَ أكثر الجوانبِ إثارةً في الأداءِ الجيد - حتى من دونِ تصميمِ الرَّقصات - هو كيف يبدو عندما يمكنُ لقلَّةٍ من الأشياء على منصة الحفل أن تنافِسَ عرضَ العديدِ من الموسيقيين الذين ينّفذون هذه الأشكالَ الإيقاعيةَ الحادَّةَ وغيرَ المُتوقَّعةَ وفي انسجامٍ تامّ.

وعلى الرغم من كلِّ أشكالِ العنفِ الكامنةِ في العمل؛ لا يمكن عدُّهُ عملاً ذا طابَعٍ عدوانيٍّ فحسب؛ بل تحملُ مقدِّمتا كِلا الجزأين إحساساً غنائياً يلفُّهُ غموضٌ ملموسٌ، فهل يمكن لأحدٍ أن ينسى ولو سمعَ مرَّةً واحدةً أداءَ الباصون المنفرِدَ الذي يُستَهَلُّ به العمل؟

لم يُحاكَى العملُ إلا نادراً ببدائيّتهِ الرجعيةِ خلالَ القرنِ العشرين، سواءٌ أكان ذلك من قِبَلِ قاماتٍ عبقرية أم كانَ حتَّى من قِبَلِ "سترافنسكي" نفسِه، والذي كان يسعى في السنواتِ التي تلَتِ العمل إلى بناءِ عناصرَ جماليةٍ أُخرى وَفقَ معاييرِ المدرسةِ الكلاسيكيةِ الحديثةِ، ممَّا حيَّرَ بدايةً معارضِيه ومؤيديه؛ إذ عدَّ البعضُ أنَّ تطوُّرَ أسلوبِ "سترافنسكي" خارجَ منظومةِ "طقوس الربيع" خيانةً لكلٍّ من جذورهِ السلافيةِ وعبقريتهِ الحديثة.

وقد تعرَّضَ العمل لعددٍ كبيرٍ من التحليلاتِ والطروحاتِ المختلفةِ لموسيقاه أو إيقاعاته أو حتَّى الرقصاتِ المُستخدَمةِ فيه في العديدِ من الأفلام، وجُسِّدَ في فانتازيا "والت ديزني" ممَّا أثار سُخطَ "سترافنسكي" بسببِ قصِّ  عمل ِ الباليه الخاصّ به ضمن أفلامِ الكرتون وإعادة هيكلتِه.

لقد كان "سترافنسكي" - شأنُه شأنُ معاصرِه "بيكاسو" - عبقريّاً متلوِّناً لا يعرفُ الاستقرار، ولا يُؤثِرُ المكوثَ في المياهِ الراكدة، وعلى الرغم من محاولاتِه المُعارِضَةِ؛ لم تحملْ أيَّةُ قطعةٍ أخرى ما حملته هذه المقطوعةُ من طاقةٍ وحشيةٍ وما خلقتْهُ من حالةٍ جدليةٍ امتدّت سنواتٍ طويلةً.

 

رابط اليوتيوب: هنا

 

 

المصادر:

1 - هنا

2 - هنا

 

/p>