البيولوجيا والتطوّر > علم الأعصاب

نشِّطْ خلاياك العصبية واستعدَّ للسيادةِ الاجتماعيّة!

هل تساءلت يوماً إذا ما كان يُوجدُ شيءٌ مميَّزٌ يدورُ في عقول الفائزين لِيمنحَهم السيادةَ على الآخرين؟ وهل حقاً يمكنُ أن يكونَ لبعضِ الأشخاصِ آلياتٌ خاصة لِخلاياهم العصبية تختلفُ من شخص لآخرَ، وتعملُ على تحديدِ من سيكون المنتصرَ والمُهَيْمِنَ على من حَولَه؟

طُرِحت هذه التساؤلاتُ كثيراً؛ وعلى ما يبدو فإنَّ الإجابة عنها باتت وشيكةً!

إذا ما نظرنا حولَنا فسوف نجدُ العديدَ من الأنواعِ في المملكة الحيوانية تتنافس فيما بينها وبعضِها مع بعضٍ؛ لِينتُجَ عن هذا التنافسِ بين أفرادِ النوعِ الواحد وأفرادِ الأنواع الأخرى نظامٌ اجتماعيٌّ متسلسِلٌ تنازليّاً من المنتصرِ السائدِ إلى الضعيفِ المتنحّي، ومن هذا التسلسل ذاتِه؛ لوحظت ظاهرةٌ تُسمَّى "تأثيرَ الفائز" (Winner Effect)؛ إذ نجدُ أنَّه كلَّما انتصرَ فردٌ على خصمِه زادَ ذلك من احتماليةِ فوزِه مرَّةً أُخرى في المواجهاتِ المستقبلية.

وقد عزا العلماءُ التنظيمَ طويلَ الأمد لظاهرةِ السيادةِ الاجتماعية هذه إلى منطقةٍ في القشرةِ الدماغيةِ أمامَ الجَبْهِية الظَّهْرانِيَّةُ الإِنْسِيَّة في المخ (The dorsomedial Prefrontal Cortex) – (dmPFC)، "وهي منطقةٌ لها دورٌمهمٌّ في جميعِ العملياتِ المعرفيةِ المعقَّدةِ؛ متضمّنةًالإدراكَ الاجتماعيَّ، ويمكن تقسيمُها إلى أربعِ وحداتٍ وظيفيةٍ منفصلةٍ تساهمُ كلٌّ منها في جوانبَ متميِّزةٍ من الإدراكِ البشري المتقدم".

و ظلَّتِ الآليةُ وراءَ حدوثِ ظاهرة "تأثير الفائز" غيرَ معروفةٍ بالتحديد، وشغلَ هذا الأمرُ اهتمامَ كلٍّ من تينغ-تينغ تشو وزملائِه (Tingting Zhou and colleagues)، ولذا؛ ولأجلِ الحصول على مزيدٍ من المعلوماتِ عن هذه الظاهرة؛ فقد درسوا مجموعةً من الفئرانِ أثناءَ تأديتهم اختباراً قياسيّاً للسيادةِ الاجتماعية.

ووضعَ الباحثون في هذا الاختبار ذكرَين من الفئران في أنبوبةٍ مفتوحةِ الطرفَين بحيثُ يواجهُ كلٌّ منهما الآخرَ، وسجَّلَ الباحثون سلوكياتِ ما بين: الشروعِ بدَفعِ الخصم، والدَّفعِ المضادِ من قِبَلِ الطرفِ الآخر، أو المقاومةِ دونَ الدفع، ثم أخيراً الاستسلامَ والرضوخ.

وأثناءَ قيامَ الفئرانِ بهذه السلوكيات؛ رُصِدَ نشاطُ الخلايا العصبية على نحوٍ فرديٍّ في منطقةِ القشرة الدماغيةِ أمام الجَبْهِية (dmPFC)، وبيَّنَتِ النتائجُ أنَّه يوجدُ مجموعةٌ معينةٌ من الخلايا تصبحُ أكثر نشاطاً أثناءَ سلوكياتِ الهجوم (الدفع) أو المقاومةِ (المقاومةِ بالدفع).

لذا؛ بدأَ الباحثونَ بتثبيط نشاطِ الخلايا العصبية لهذه المنطقة في مجموعةٍ من الفئران التي كان قد سُجِّلَ سلوكُها الاجتماعيُّ مسبقاً؛ مستخدمين في ذلك دواءً معيناً، لِيشاهدوا كيف سيؤثِّرُ ذلك على سلوكياتهم. وفي غضونِ ساعاتٍ كانت سلوكياتُ المقاومةِ (الدَّفعِ المضاد) عند هذه الفئران أقلَّ بكثير من حيث العدد وأقصرَ في وقتِ استمراريتها، فضلاً عن أنَّ الفئران أظهرت مزيداً من سلوك التراجع والاستسلام.

وفي خطوةٍ لاحقةٍ؛ حفّزَ الباحثون الخلايا العصبية في المنطقة ذاتها باستمرارٍ طوالَ مدّةِ اختبارِ السيادة الاجتماعية؛ مستخدمين في ذلك تقنيةً تُسمَّى علمَ البصرياتِ الوراثي (Optogenetics)، الأمرُ الذي أدَّى إلى حثِّ الفئران ودفَعِها إلى الفوزِ والتغلُّبِ على خصومِها الذين كانوا سائدينَ ومسيطرين قبلاً، وذلكَ بمعدِّلِ نجاحٍ (90%)، ودونَ التأثير على الأداء الحركي أو مستوى القلقِ لدى الفئران.

ومن الجدير بالملاحظةِ أنَّ تحفيزَ هذه الخلايا العصبيةِ في اختبارِ السيادة الاجتماعية سيكون له تأثيرٌ على أداءِ الفئران في اليوم الأول؛ وسوف يستمرُّ تأثيرُه إلى اليوم الثاني ولكن دون أيَّ تحفيزٍ إضافيٍّ؛ فجميعُ الفئرانِ التي حُفزت ضوئياً أكثر من 6 مراتٍ في أحد الاختبارات تحتفظُ بمعدَّلاتِها الجديدةِ للسيادةِ والفوزِعلى خصومِها في سجلَّاتِها أثناءَ تكرارِ الاختبار، في حين أنَّ الفئرانَ التي حُفِّزتْ ضوئياً أقلَّ من 5 مراتٍ تعودُ - مع تكرار الاختبارات - إلى معدَّلاتها الأصليةِ في الفوز والخسارة.

ونشرَ الباحثون نتائجَهم في مجلة (Science) بتاريخ 14 تموز(يوليو) 2017م، لِتكونَ هذه الدراسةُ خُطوةً جديدةً في طريقِنا إلى اكتشافِ أسرارِ الدماغ المختلفةِ وفكِّ شيفراتها.

المصادر:

هنا

هنا

هنا