علم النفس > المنوعات وعلم النفس الحديث

الإبداع والجنون

استمع على ساوندكلاود 🎧

من منا لم يسمع بهلوسات جون ناش "عالم الرياضيات " أو جنون فان كوخ؟!

من لم يشاهد دكتور هاوس وطريقته المجنونة في تشخيص الأمراض؟!

وقول سلفادور دالي "الفرق الوحيد بيني وبين المجنون هو أني لست مجنوناً"...

جميعنا نعتقد بوجود ذلك الرابط الغريب بين الجنون والإبداع في أي مجال كان، ولكن هل اعتقادنا حقيقة؟!

بعض الدراسات تظهر وجود صلة بين المرض العقلي والإبداع، إلا أنها تعرضت لكثير من الانتقادات لأنها تنطوي على عينات صغيرة على درجة عالية من التخصص ومنهجيات ضعيفة غير متناسقة، والاعتماد الأقوى فيها على روايات بعض الأشخاص.

من المؤكد أن بعض الأبحاث أظهرت أن العديد من المبدعين البارزين _خصوصا في مجال الفن_ لديهم خبرات قاسية في مراحل مبكرة من حياتهم كالرفض الاجتماعي أو فقدان الوالدين أو العجز البدني وعدم الاستقرار العقلي أو العاطفي، لكن هذا لا يعني أن المرض العقلي كان العامل ذو الفضل، في الحقيقة المرض العقلي ليس ضرورياً ولا كافياً للإبداع...

القليل منا فقط يصل إلى الإبداع لكن لحسن الحظ هناك درجات مختلفة منه حيث يمكننا أن نعبر عنه بطرق مختلفة، تبدأ من الإبداع الكامن في عملية التعلم إلى الأشكال اليومية من الإبداع، إلى المستوى المهني والخبرة في أي مجال انتهاءً بالإبداع البارز.

الارتباط بالأشكال اليومية للإبداع _التعبير عن الأفكار الخلاقة والتأمل في معاني الحياة اليومية _ والتي لا تتطلب جهداً أو معاناة، حيث وُجد أن الناس الذين يمارسون الإبداع اليومي الذي يتمثل في الدراسة الجامعية أو التصوير أو النشر في مجلة أدبية، يميلون ليكونوا أصحاب عقلية منفتحة مثابرين إيجابيين حيويين فضوليين ويمتلكون محفزاً ذاتياً كنتيجة لنشاطاتهم، و شعوراً بالرفاهية ونمو الشخصية بالمقارنة مع زملائهم الذين شاركوا بسلوكيات إبداعية أقل.

الانخراط في الأعمال الإبداعية قد يشكل علاجاً لأولئك الذين يعانون بالفعل، على سبيل المثال تظهر الأبحاث أن الكتابة التعبيرية تزيد من أداء الجهاز المناعي، وفي مجال الشفاء ما بعد الصدمة يبين كيف يستطيع الناس أن يحولوا المحنة إلى نمو إبداعي.

ماذا تقول الأبحاث في هذا الموضوع؟!

في التقرير الأخير لدراسة دامت لمدة أربعين سنة على 1.2 مليون شخص من السويد وجد _باستثناء المصابين بالاضطرابات ثنائية القطب_ أن المرض العقلي الكامل لايزيد من احتمال الإبداع _حتى الاستثناء الخاص بالاضطرابات ثنائية القطب أثر فيهم المرض بزيادة قليلة بنسبة 8%_ لكن ماكان ملفتاً للنظر هو أن أشقاء المرضى المصابين بالتوحد والأقارب من الدرجة الأولى لمرضى الفصام واضطراب ثنائي القطب وفقدان الشهية العصبي كانوا متميزين جداً وبشكل ملحوظ في المهام التي تتطلب إبداعاً!

هل من الممكن أن يكونوا قد ورثوا نسخة مخففة من المرض العقلي يؤدي إلى الإبداع مع تجنب أعراض المرض العقلي الكامل المدمرة؟!

يدعم البحث فكرة أن الأقارب السليمين نفسياً لمرضى الفصام لديهم وظائف إبداعية بشكل غريب وهوايات غريبة ويميلون إلى إبداء درجات عالية من سمات الشخصية الفصامية، مقارنة بالناس العاديين (لاحظ أن سمات الشخصية الفصامية ليست مرض الفصام ذاته) بل هي مجموعة من الصفات الشخصية التي تبدو واضحة لدى الجميع :

هي سلسلة من الخصائص الشخصية والخبرات التي تتراوح بين حالات الخيال العادية إلى حالات أكثر تطرفاً متعلقة بالذهان (فقدان الاتصال بالواقع)، كأن تكون شخصاً عادياً مع العديد من الأفكار المجنونة المتطرفة غير المألوفة.

ويمكن تقسيم سمات الشخصية الفصامية إلى "إيجابية" تشمل التجارب الإدراكية غير العادية، والروابط العقلية الضعيفة بين النفس والآخرين وعدم الانسجام القهري والمعتقدات الخرافية.

وصفات فصامية "سلبية" منها الفوضى المعرفية وانعدام الملذات المادية والاجتماعية حيث يعاني صاحبها من صعوبة من الاستمتاع بالتفاعلات والنشاطات الاجتماعية الممتعة لمعظم الناس.

وقد لوحظ بروز الصفات الإيجابية أكثر من السلبية منها للمتمتعين بسمات الشخصية الفصامية.. ولهذا انعكاسات هامة على الإبداع، حيث وجد أن التجارب غير العادية وعدم الانسجام القسري مرتبطة بشكل ملحوظ بالتقييم الذاتي الإبداعي، كاالشخص الواثق صاحب الرؤية المتفردة والاهتمامات الواسعة غير التقليدية، وأيضا بالإنجازات الإبداعية اليومية ككتابة قصة قصيرة أو تصميم مواقع الويب الخاصة بك أو تأليف قطعة موسيقية.

هل تعتقد أنك تتمتع بهذا النوع من الشخصية ؟!

دعمت نتائجُ أبحاثِ علم الأعصاب نتائجَ علم النفس بوجود صلة بين ذوي الشخصية الفصامية والإبداع...

أجرى "Hikaru Takeuchi" وزملاءه بحثاً على خصائص الدماغ الوظيفية للمشاركين أثناء أداء الذاكرة العاملة لمهام صعبة.

الأهم من ذلك أنه ليس لدى أيِّ من المشاركين تاريخُ أمراضٍ عصبيةٍ أو نفسية، وجميعهم كانت لديهم قدرات ذاكرة عاملة سليمة.

طلب منهم أن يعرضوا إبداعاتهم بعدة طرق أي:

"خلق طرق فريدة لاستخدام أغراض عادية، وتخيل وظائف مرغوبة للأشياء العادية، وتخيل النتائج لأشياء لا يمكن تخيلها تحدث"

وجد الباحثون أنه كلما كان المشارك أكثر إبداعاً كلما أصبح من الصعب كبح الطلل _تلفيف مخي صغير_ أثناء أداء مهام مجهدة للذاكرة العاملة.

الطلل: هو مجال الشبكة الافتراضي، الذي يُظهر عادةً أعلى نشاط دماغي في وضع الراحة _عند عدم التركيز على أي مهام خارجية_ وقد ربط بالوعي الذاتي والسمات العقلية الذاتية، واسترجاع الذكريات الشخصية.

كيف يرتبط هذا بالإبداع؟!

وفقاً للباحثين إن عدم المقدرة على كبح النشاط المعرفي غير الضروري يساعد الأفكار الإبداعية على ربط فكرتين ممثلتين في شبكات دماغية مختلفة، كأن تخطر لك أفكار غريبة لا تستطيع التحكم بها ثم تجد رابطاً غريباً بين شيئين لم تكن تتخيل وجود رابط ٍبينهما، مما يعطيك فكرة عبقرية مجنونة....هل شعرت بهذا من قبل؟!

ماذا يحدث إذا قارنا مباشرة أدمغة المبدعين مع الأشخاص ذوي الصفات الفصامية؟

وجدوا أيضاً أن الناس يستطيعون أن يأتوا بأفكار خلاقة وهذا يترافق بعدم قدرة على تثبيط الطلل خلال التفكير الإبداعي.

هذه النتائج أتت مترافقة مع فكرة أن العمليات العقلية لدى الناس الأكثر إبداعاً تشمل أحداثاً ومحفزاتٍ أكثر من الناس الأقل إبداعاً.

وأنّ من لديهم نتائج عالية من الشخصية الفصامية، أظهروا نمطاً مشابهاً للنشاط الدماغي أثناء التفكير الابداعي لدى الأشخاص المبدعين جداً.

يبدو أن مفتاح الإدراك الإبداعي يفتح الأبواب لتدفق الأفكار ويسمح بتأمين أكبر قدرٍ ممكن من المعلومات، فأحياناً أكثر الارتباطات غرابة تتحول إلى أفكار إبداعية مثمرة.

وجدت شيلي كارسن وزملاءها من خلال عينة أخذت من جامعة هارفارد أن الطلاب الأكثر إبداعاً كانوا أيضاً أكثر عرضة بسبع مرات للتثبيط الكامن المنخفض المرتبط بالإيمان والحدس.

وفي دراسة أخرى وجد أن الطلاب الذين كانوا يمتلكون تثبيطاً كامناً منخفضاً، قد سجلوا أعلى الدرجات في الانفتاح على التجارب.

ماهو التثبيط الكامن؟!

هو آلية تصفية للمعطيات، نشترك فيها مع الحيوانات مرتبطة بالناقل العصبي "الدوبامين".

يسمح لنا بالتعامل مع الأشياء كأننا نراها للمرة الأولى بغض النظر عن عدد المرات التي شاهدناها فيها من قبل.

أي هو عملية تحييد للمنبهات التي اعتاد عليها الشخص كي لا تلفت انتباهه كل مرة، ويمكن أن يكون المنبه من أي نوع سمعي أو بصري أو لمسي.

عندما يتعرض التثبيط الكامن لنقص، يعني أن الشخص كلما يرى المنبهات ذاتها التي من المفروض أنه قد اعتاد عليها.. سوف تلفت انتباهه، وسوف يشاور نفسه عن شكلها ولونها وأشياء أخرى لأنها لفتت انتباهه كأنه رآها أو سمعها لأول مرة، وبالتالي سوف يحفظ كل تفاصيلها الدقيقة وينتبه إلى أي تغيير مهما كان طفيفاً، هذا الاهتمام الشديد بالتفاصيل قد يؤدي إلى الجنون.

وكما أشارت كيلي كاسرون أن العمليات العقلية الضعيفة مثل التثبيط الكامن المخفّض والميل إلى البدعة والحداثة، وفرط التواصل والمثابرة، يمكن أن تتفاعل مع العوامل الوقائية مثل تعزيز المنطق والذاكرة العاملة والمرونة الإدراكية، لتوسيع نطاق وعمق المحفزات المتوفرة في الوعي كي تعالج وتدمج وتشكل أفكار جديدة ومبتكرة.

وهذا ما يقودنا للرابط الحقيقي بين الإبداع والأمراض العقلية...

ما رأيك بهذا البحث؟...هل أقنعك؟!

المصادر:

هنا

هنا