الرياضيات > الرياضيات

التّناظرُ: علاقتُه بالنّموذجِ القياسيِّ ونسبيّتَي آينشتاينَ

يظنّ كثيرون اليومَ أنّ التّناظر مفهومٌ سطحيٌّ مقلِّلِين بذلك من شأنه كثيراً، إذ كان منارةً للفيزيائيّين منذ مطلع القرن العشرين، ويكاد يكون جوهرَ نظريّاتنا الحديثة جميعِها. وقبلَ المضيِّ قُدُماً باستعراضِ هذه اللّوحات الّتي يمثّل التّناظر لوناً أساسيّاً فيها، قد تودّون الاطّلاعَ على البُعدِ الرّياضيّ لهذا المفهوم في مقالنا السّابق (هنا).

التّناظر ونظريّة النّسبيّة:

وُظِّف هذا المفهوم أوّلَ توظيفٍ مهمٍّ على يدِ أحد أشهر العلماء على مرِّ التّاريخ؛ آلبرت آينشتاين، وما فشلُ آينشتاين في الرّياضيات في المراحل المبكّرة من دراسته إلّا محضُ شائعةٍ عاريةٍِ عن الصّحّة، وعلى الرّغم من ذلك فقد اعترف بنفسه بأنّ مهاراتِه التّعبيريّةَ اللّغويّةَ ضعيفةٌ جدّاً؛ وفي الحقيقة فهو لم يتكلّم حتّى سنِّ الرّابعةِ، ونتيجةً لذلك كان يفكّر بالأشياء كصورٍ، ما جعله يبتكر طرائقَ مختلفةً لتصوير المفهومات الّتي كان يواجه صعوبةً في صياغتها، ولقد كانت طريقةُ تفكيرِه غيرُ الاعتياديّةِ هذه هي أعظمُ نقاطِ قوّته، وهي ما ساعده في الوصول إلى نظريّتيه النّسبيّةِ العامّة والنّسبيّة الخاصّةِ، اللتين استُلهِمتا من فكرة أنّ سرعةَ الضّوء هي نفسُها بالنّسبة إلى أيّ مراقبٍ أيّاً كان اتّجاهُ حركة هذا المراقب وسرعتُها، ما قد يخالف حدسَنا العامّ لأنّنا عادةً نَعدُّ السّرعاتِ جميعَها نسبيّةً؛ أي مختلفةً بالنّسبة إلى بعضها.

فنحن نعلمُ أنّ سرعة الضّوء تساوي 300 مليونِ مترٍ في الثّانية، وإنْ سُلِّطَ عليك ضوءٌ وكان منبعُه يتحرّك نحوك بسرعة 1000 مترٍ في الثّانية مثلاً، فلن تصبحَ سرعة الضّوء بالنّسبة إليك 300 مليونٍ و1000 مترٍ في الثّانية، بل ستبقى 300 مليونِ مترٍ في الثّانية حسَبَ آينشتاين.

قد لا تكون صلةُ ذلك بالتّناظر واضحةً، ولذلك نستحضر هنا أنّ جوهرَ التّناظرِ ليس إلّا بقاءُ الشّيء المتناظرِ على حاله أيّاً كانت الزّاوية الّتي ننظر إليه منها، وإن كنّا نراقب شعاعاً ضوئيّاً وأردنا أن نغيّر منظور المراقبة بأن نتحرّك في اتّجاهٍ ما بسرعةٍ ما، فستبقى سرعة الشّعاع المُراقَب على حالها حسَبَ آينشتاين، وبالتّالي لا بدَّ من أنّ هذه الظّاهرة تنبع من تناظرٍ من نوعٍ ما.

ويُدعى التّناظرُ الكامنُ وراءَ هذه الظّاهرةِ تناظرَ لورينتز Lorentz Symmetry، وتفاصيلُ هذا التّناظر معقّدةٌ تعقيداً يغلق الباب في وجه مناقشتها في هذا المقام دون أن يمنعنا من إجلال عبقريّة آينشتاين واحترامها، ففي حين أنّ كثيرين كانوا لِيَعدّوا ثباتَ سرعةِ الضّوءِ في المعادلات الّتي تصفه خطأً  يجب تصحيحُه، عدّه آينشتاين أحد قوانينِ الطّبيعة الأساسيّةِ الّتي لا جدال فيها.

ثمّ أعاد النّظر في فهمنا المكانَ والزّمانَ، وأتى بفهمٍ جديدٍ لهما يتوافق مع ظاهرة ثبات سرعة الضّوء تلك، متوصّلاً إلى نظريّتيِ النّسبيّة اللّتين تفسّران الجاذبيّة وتُمكِّنَانِنا من قياسها قياساً أدقَّ من الّذي تُمَكِّنُنا منه النّظريّات السّابقة، ولكنّ دقّة هاتين النّظريّتين تقتصر على المقاييس الكبيرة، وأمثلةُ ذلكَ المجرّاتُ السّابحةُ عبرَ الكون ومداراتُ الكواكبِ والشّمسُ وحتّى النّاسُ الواقفين على الأرض، أمّا إذا ما انتقلنا إلى مقاييسَ أصغرَ جدّاً فسنجد أنفسنا في عالَمٍ تحكمه قوانينُ أغربُ وأشدُّ مخالفةً لحدسنا العامّ، وهو عالمُ ميكانيكا الكمّ الّذي يصِفُ لبِناتِ الكون الأساسيّةَ.

النّموذج القياسيّ:

في عصر آينشتاين كنّا لا نعرفُ من بِنية المادّة إلّا الذّرةَ والنّواةَ الّتي تتوسّطها والإلكتروناتِ المحيطةَ بالنّواة، ثمّ تعرّفنا على الجسيماتِ المشكِّلةِ النّواةَ، فاكتُشِفتِ البروتوناتُ في عشرينيّات القرن الماضي، والنّيوتروناتُ في ثلاثينيّاته، ولكن لم يكن ذلك نهايةَ الأمر؛ فَمَع تطوّر التّكنولوجيا إثْرَ الحرب العالميّة الثّانية أخذ العلماء يبنون مُسرِّعات جسيماتٍ يفوق لاحقُها سابقَها قوّةً، وأجروا بدافع الفضول تجاربَ مصادمةِ جسيماتٍ بسرعاتٍ عاليةٍ، ونتج عن ذلك مزيدٌ من الجسيمات الّتي تبدو كالبروتونات والنّيوترونات، وأُضيف كلٌّ منها إلى مجموعة الجسيمات الّتي أخذت تتّسع باستمرار التّجارب، ما ولّد فوضىً عارمةً لاعتقاد العلماء حينها بأنّ كلَّ جسيمٍ ناتجٍ ينبغي أن يكون جسيماً جديداً أساسيّاً كالنّيترونات والبروتونات.

ولهذا استماتَ الفيزيائيّون في محاولات تصنيف هذه الجسيمات المكتشَفةِ فيما يشبه جدول العناصر الدّوريّ لدى الكيميائيّين، ومع أنّهم لم ينجحوا في ذلك، عثروا في هذه الفوضى على أطرافِ خيوطٍ لأنماطٍ منبثقةٍ مِن اشتراك هذه الجسيمات في خصائصَ واختلافها في أُخرى، وبقيت أسبابُ هذه الأنماط مجهولةً حتّى عامِ 1964 حينَ اقترحت مجموعتان منفصلتان من الفيزيائيّين وجودَ الكواركِ: اللّبِنةِ الأساسيّة للجسيمات المكتشَفةِ كالبروتوناتِ والنّيوترونات وغيرِها.

وكما هو الحال في نظريّة النّسبية، قد لا تكون صلة هذا الموضوع بالتّناظر بديهيّةً، لكنّها في الواقع أشدُّ مباشرةً من صلة النّسبيّة به، فقد استفاد الفيزيائيّون حينَها من زُمرِ تماثلٍ (1) كالّتي قدّمها ڠالوا (2)، إذ درسوا الأنماط الملاحَظة فيما بين الجسيمات المكتشَفةِ العديدة وربطوها بزُمرِ تماثلٍ محدَّدةٍ، ما كشف عن البنية الأساسيّة للجسميات. وهكذا استطاع الفيزيائيّون حينها تعريف هذه البنية بدلالة الجسيمات الأساسيّة وبقوانينَ محدَّدةٍ تتفاعلُ وفقها هذه الجسيماتُ بضعها مع بعضٍ، وتُعرَف نتيجةُ ذلك - اليومَ - بما يُدعى النّموذجَ القياسيَّ Standard Model الّذي يحوي تماثلاتٍ معقَّدةً جدّاً مكوَّنةً من اجتماع عددٍ من الزُّمرِ المختلفةِ.

وعندما اقتُرِحت هذه النّظريّةُ لم تكنِ الجسيماتُ جميعُها الّتي توقّعتِ النّظريّةُ وجودَها مُكتشَفةً بعدُ، ما مثّل مادّةَ اختبارٍ ممتازةً للنّظريّة على مدى أربعينَ عاماً منذ اقتراحها، فذلك يفتح الباب للتحقّقِ من صحّة النّظريّة عن طريق العثورِ على الجسيماتِ جميعِها الّتي توقّعتِ النّظريّة وجودَها، ومطابقةِ خصائصِ الجسيمات المعثورِ عليها الخصائصَ الّتي توقّعتِ النّظريّةُ أن تحوزها، ولحسن الحظّ لم يظهر أيُّ تناقضٍ بين ما توقّعته النّظريّة وما عُثِر عليه في الواقع.

عالَمٌ غيرُ متناظرٍ:

يتلخّص أثرُ التّناظرِ الفلسفيُّ على الفيزياء في هاتين النّظريّتين: النّسبيّةِ والنّموذجِ القياسيِّ. فمن ناحية النّسبيّة؛ لاحظَ آينشتاين مقداراً محفوظاً (3) ألا وهو سرعة الضّوء الثّابتة بالنّسبة إلى أيّ مُراقِبٍ، فلم يهمل هذا المقدارَ، بل تتبّعه إلى أن توصّل إلى التّماثُل الأساسيّ في الزّمكان. وأمّا من ناحية النّموذج القياسي؛ فقد كان العلماء قد تنبّهوا إلى فعّاليّة التّناظر، ولذلك سلكوا طريقاً مختلفاً هو البحثُ عن التّناظر في النّظام الفيزيائيّ المدروسِ ثمّ الاستفادة من خواصّ التّناظر لفهمٍ أعمقَ للنّظام الفيزيائيّ، وبهذا تمثّلُ هاتان النّظريّتان منهجَي ثورةِ التّناظر الّذين تحدّثنا عنهما في المقال السّابق (رابطه في المقدّمة)، ويختلف المنهجان شكلاً لكنّهما يتّفقان في الجوهر الّذي يؤكّد ترسُّخَ التّناظر في الطّبيعة.

ولكن إن كانت نظريّاتنا الفيزيائيّة تناظريّةً حقّاً، فلمَ لا نرى التّناظر حولَنا في كلّ مكانٍ من هذا العالَمِ؟

العشوائيّةُ.. العشوائيّةُ هي السّبب! فحين طُرِحت نظريّات الكوانتوم تجلّى وجهُ الكون الّذي لا يمكن التنبّؤ بالأشياء فيه، إذ حسَبَ تلك النّظريّات يُتنبّأ بحالة الجسيماتِ بواسطة عمليّاتٍ احتماليّةٍ لا عمليّاتٍ محدِّدةٍ حتميّةٍ (4)، ولكنّ حالتَها تصبح محدَّدةً حتميّةً لحظةَ رصدِها، ما يفسّر كونَ كثيرٍ من الكائنات بعيدةً عن التّناظر على نحو ملحوظٍ على الرّغم من أنّ قوانينَ فيزيائيّةً شديدةَ التّناظريّةِ هي التي تصِفُها.

وعلى سبيل المثال؛ تخيَّلْ أنّنا أوقفنا قلمَ رصاصٍ على رأسه المدبّبِ على ورقةٍ، فإذا ما دوّرنا الورقةَ سيبقى مظهرُ القلم ثابتاً على حاله بإهمال تأثير الرّياح وما شابه ذلك، وفي هذه الحالة ليس لدى القلم نزعةٌ للسّقوطِ في أيّ اتّجاهٍ. ويعبّر الفيزيائيّون عن ذلك بقولهم: ليس لدى النّظام الفيزيائيّ اتجاهٌ مفضَّلٌ؛ ما يعني أنّه متماثلٌ أي متناظرٌ تحتَ الدّوران.

ولكنّ القلم سيسقط عاجلاً أم آجلاً بسبب التّقلّبات الكموميّة في الجسيمات الّتي تشكّله، والّتي هي عشوائيّةٌ تماماً في الطّبيعة، وعند سقوطه سيُخرَق هذا التّناظر؛ أي إذا دوّرنا الورقةَ بعد سقوط القلم لن يبقى مظهره على حاله،  بل سيتغيّر جاعلاً لدى للقلم اتجاهاً مفضَّلاً يتغيّر وفقاً للزّاوية الّتي ندوّر الورقةَ بها، ولكن إنْ كرّرنا هذه العمليّة مرّاتٍ كثيرةً، فسوف يكون القلمُ قد سقط في الاتّجاهات جميعِها تقريباً حتّى تغطّيَ اتّجاهاتُ سقوطه دائرةً تامّةً، وعندها إنْ أخذنا متوسّطَ تلك الاتّجاهات فسنلاحظ أنّها تُلغي بعضها، إذ أيّاً يكنِ اتّجاهُ سقوط القلم فهو سوف يسقط مستَقبلاً في الاتّجاه الّذي يعاكسه، وهكذا نرى ألّا اتجاهَ مفضّلاً لدى القلمِ على المتوسّطِ، وأنّ التّناظرَ يعودُ ليسودَ المشهدَ.

الصّواب والجمال:

يبقى السّؤال: هل عفا الزّمن على التّناظر؟ وهل بات غيرَ قابلٍ للتّوظيف في مجالات العلم المتقدّمة بتسارعٍ جنونيٍّ؟

لحسن الحظّ؛ نستطيع أن نقول: إنّه على الرّغم من أنّنا لم نَسبُر حنايا التّناظرِ كلَّها بعدُ؛ فما يزال يستطيع أن ينيرَ طريقَ تفكيرِنا في المستقبل القريب؛ إذ يُتوقَّعُ أن تكون نظريّةُ كلِّ شيءٍ Theory of Everything تناظريّةً، وهي نظريّةٌ يتطلّع الفيزيائيّون اليومَ إلى التّوصّل إليها، تجمعُ قوى الكون جميعِها في زمرةِ تناظرٍ كبيرةٍ واحدةٍ مفسِّرةً بنيةَ الكونِ الجوهريّةَ.

وإنّ الجمالَ المتأصّلَ في النّظريّات المبنيّة على التّناظر مؤشّرٌ لصوابها وصحّتها، وحتّى آينشتاينُ اعتقد بذلك، بل عدّ الجمال والصّواب وجهين لعملةٍ واحدةٍ، ومع أنّ رأيَه هذا ليس متبنّىً عموماً؛ يحيي هذا المفهومُ آمالَنا من وجهة نظرٍ فلسفيّةٍ تجاه ما يخبّئُه المستقبل لنا من تطوّرٍ علميٍّ، وقد قال آينشتاينُ معبّراً عن هذا الارتباط الوجوديّ بيننا وبين العلم والجمال: "السّعيُ إلى الحقيقةِ والجمالِ فقاعةٌ من الحيويّةِ نستطيع فيها أن نبقى أطفالاً طوال حياتنا".

----------------------------------------------------------

(1) التّماثُل مُصطَلحٌ رياضيٌّ للتّناظر، فقولُنا إنّ النّظام متماثلٌ يكافئ قولَنا إنّه متناظرٌ.

(2) ڠالوا رياضيٌّ فرنسيٌّ تحدّثنا عنه وعن نظريّته نظريّةِ الزّمر في المقال السّابق (رابطه في المقدّمة).

(3) المقدار المحفوظ مصطلحٌ يرِد في موضوع التّناظُر، ويعني السِّمةَ في النظام المتناظر الّتي لا تتغيّر عند تطبيق تحويلٍ أو أكثر عليه.

(4) على سبيل المثال: في الميكانيك الكلاسيكيّ وحتّى النّسبيّ يمكن حسابُ أين سيكون جسمٌ ما في لحظةٍ ما بدقّةٍ عاليةٍ بواسطة معادلاتٍ حتميّةِ النّتائجِ، وإن كانت بعض خصائص هذا الجسم معلومةً، وأمّا في ميكانيكا الكمّ أو الكوانتوم فلا يمكن في هذا السّياق إلّا حسابُ احتماليّةِ وجود الجسيمِ في موضعٍ ما في لحظةٍ ما، لكنّ ذلك لا يمنعنا من معرفة أين يوجَدُ الجسمُ بالتّحديد لحظةَ رصدِه.

المصدر: هنا