الفيزياء والفلك > علم الفلك

هوائيّ بسيط يتفوّق على أكبر مراصد العالم، ويرصد الضوء الصادر عن أقدم نجوم الكون

اكتشف علماءُ الفلكِ ما يُعتقدُ أنّه الضّوء الأوّل الصّادرُ عن ولادةِ بعض أقدمِ النّجوم وأبعدها - عنّا - في الكون، وذلك باستخدام هوائيٍّ راديويّ بسيطٍ، واعتماداً على عمليّات رصدٍ تلتها قياساتٌ دقيقة، متفوّقين في ذلك على تلسكوبِ هابل الفضائي.

بدأت حياةُ هذه النّجومِ بُعيدَ الانفجارِ العظيمِ، فأضاء الكون للمرّةِ الأولى متحولاً من مكانٍ مظلمٍ موحش لا شيء فيه إلى معرضٍ خلّابٍ من المجرّات و الكواكبِ و النجوم؛ وهو الكونُ الّذي نعرفه اليوم.

لم يتكبّدِ الباحثون عناءَ بناءِ مرصِدٍ عملاقٍ للوصولِ إلى هذا الاكتشاف، بل اعتمدوا على هذا الجهاز

 

مُستقبلٌ هوائيّ يشبه طاولةَ الطّعام في منزلك!

قبل أكثرِ من 12 عامًا، اقترح فريقٌ صغيرٌ من الباحثينَ - بمن فيهم "آلان روجرز" وَ"جود بومان" الّذي كان طالبًا في ذلك الوقتِ - أنّ إضافةَ مُستقبِلٍ حسّاسٍ إلى هوائيً بسيطٍ كهذا قد يُمكّنُنا من سبرِ الكونِ الوليد (أي في مرحلةٍ مبكرة جدّاً من عمره). كان هذا اختباراً لقُدرة "آلان" على إجراءِ القياساتِ الدّقيقةِ اللازمةِ للكشفِ عن إشارةٍ راديويّةٍ اعتقدَ العُلماءُ سابقًا أنّ رصدها مستحيل، وقد خاطرت مؤسّسة "NFS" بقبولها لمشروعٍ يبدو مستحيل النّجاح.

كانَ الكونُ قبلَ ولادةِ النّجومِ الأولى عبارةً عن غازٍ باردٍ مُظلمٍ يتألّف معظمهُ من الهيدروجين، تتقاذفهُ أمواجُ بحرٍ من الإشعاعاتِ الّتي خلّفها الانفجارُ العظيم (إشعاعُ الخلفيّةِ الميكرويّةِ الكونيّةِ CMB هنا والّذي لم يكن يكن ميكرويّاً حينها)

اعتقدَ العُلماء سنواتٍ طويلةً أنّ الضّوءَ الصّادر عن النّجومِ الأولى الّتي أضاءتِ الكونَ قد أثّر على هذا الغازِ الكونيّ، ما جعلهُ يمتصّ الأمواجَ الرّاديويّةَ لإشعاعِ الخلفيّةِ الكونيّة المُحيطة، والّتي تمتلك تردّداً محدّدًا (1.4 GHz). لكنّ المُشكلة هي أنّ توسّع الكونِ (Universe Expansion) شوّه هذه الأمواجَ الرّاديويّةَ مغيراً تردّداتها، لتُصبحَ بالتّأكيد أقلّ من 1.4 GHz. لكن كم يبلغُ هذا التّرددُ بالضّبط؟ لا أحد يعلم!

كان هذا التّرددُ مجهولاً كبيراً، وكانت محاولةُ إيجادِ هذا التّردّدِ شبيهةً بالاستماعِ لجميعِ محطّات المذياعِ في وقتٍ واحدٍ لِتحديدِ المحطّةِ المفقودة!

أدرك كلّ من "آلان" و "جود" أنّ فريقاً صغيراً من الباحثين مُزوّدٌ بهوائيٍّ مُفردٍ ومُستقبلٍ راديويٍّ حساسٍ جدّاً، هو كلّ ما يحتاجانِه. شدّ فريقُ البحثِ رحالَهُ إلى موقعٍ معزولٍ في صحراءِ أستراليا، بعيدًا عن تشويشِ أيّةِ إشاراتٍ راديويّة قد تؤثّرُ على نتائج الرّصدِ، ونصبوا الهوائيَّ والمُستقبِلَ الرّاديويّ، وبدأوا عمليّةَ الرّصد.

كانت الإشارةُ خافتةً جدّاً رغمَ عزلةِ الموقعِ، فمجرّتنا لوحدها تنبضُ بإشاراتٍ راديويّةٍ أقوى بنحوِ عشرةِ آلاف مرّةٍ من الهَمَساتِ الّتي يُجاهدُ الكونُ الوليدُ لإيصالِها إلينا. كان ذلك أشبهُ بمحاولةِ الاستماعِ إلى رفرفةِ جناحيّ طائرٍ داخلَ إعصارٍ عنيف.  عدّل الفريق معدّاتهم وطوّروها بعد عدّة سنواتٍ، وعثروا على دليلٍ على وجودِها عام 2006، ولكن بالنّظرِ إلى ما تكبّدهُ الباحثون من تحدياتٍ لاستخلاصِ هذا الدّليلِ، فقد كان تأكيد هذا الدّليل مغامرةً أُخرى لا تقِلُّ صعوبةً عن رحلةِ إيجاده؛ إذ لا بدّ من اتّباعِ المنهجيّةِ العلميّةِ الّتي تقضي بتأكيدِ الإشارةِ بصورةٍ لا تقبلُ الجَدل، فأمضى الفريقُ أكثرَ من سنةٍ في محاولةٍ لدراسةِ كلّ التّفسيرات المحتملةِ للنّتائج الّتي توصّلوا إليها، مفنّدين هذهِ التّفسيراتِ الواحدةَ تلو الأخرى.  

زادَ الباحثونَ مساحةَ الأرضِ أسفلَ الهوائيّ، ووظّفوا هوائيّاً آخرَ وبدّلوا اتّجاه الهوائيّ مرّاتٍ عديدةٍ وطوّروا مُعايرةَ التّجهيزات وأخذوا في الحسبانِ التّداخلَ الرّاديويّ النّاتجَ عن الشّمسِ والقمر، مثبتين في نهايةِ المطافِ صحّة النّتيجةَ الّتي توصلّوا إليها... الإشارةُ حقيقيّة.

سيتمكّن العلماءُ من دراسةِ هذه الإشارةِ الصّادرةِ عن غازِ الهيدروجين في مرحلةٍ مبكّرةٍ من عمر الكونِ بدقّةٍ أكثر، وذلك بالتّعاونِ مع مراكزَ بحثيّةٍ أخرى وبالاعتمادِ على مئاتِ الهوائيّاتِ وتقنيّاتِ معالجةٍ أدقَّ للبياناتِ ومئاتِ السّاعاتِ سيقضيها العلماءُ في الرّصد، لرسمِ صورةٍ أدقُّ بكثيرٍ عن الظّروفِ السّائدة في تلك المرحلة.

لم يعرفِ العلماءُ سابقاً ما إذا كانَ وجودُ إشارةٍ كهذه أمراً مؤكّداً، فما بالك بتردّدها؟ لكن يمكننا اليومَ أن نشكرَ "الآن" و"جود" وفريقهما، فقد اكتشفوا فصلاً مفقوداً في تاريخِ الكونِ، فصلٌ يخبرنا كيف تطوّرَ الانفجارُ العظيمُ ليصبحَ الكونُ الّذي نعرفه، وكيف تطوّرتِ المادّةُ من الجسيماتِ الأوليّةِ إلى الكونِ بما فيه من مجرّاتٍ ونجومٍ وكواكبَ وحياةٍ بشريّةٍ.

لكنّ القصّةَ لن تنتهي هنا، بل ستأخذ منعطفًا دراميّاً جديداً. فقد وجد الباحثون أنّ الإشارةَ المرصودةَ أكبرُ بمرّتين ممّا تشيرُ إليه النّماذجُ الكونيّةُ الحاليّةُ، أي أنّ الغازَ الكونيّ الّذي امتصّ الضّوءَ للمرّةِ الأولى في مرحلةٍ مبكّرةٍ من عمرِ الكونِ،  كانَ أبردَ ممّا ينبغي، فهل تُقدّم المادّة المُظلمةُ تفسيراً لهذا الاختلاف؟

ربّما، لكنّ الأمرَ الّذي نعرفه الآن هو أنّ هذا الاكتشافَ جعلنا نعرفُ التّوقيتَ الّذي انتقل فيه الكونُ من العصورِ المظلمةِ إلى النّور؛ أي بعدَ 180 مليونِ سنةٍ على الانفجارِ العظيم!

المصادر: 

1 - هنا

2 - هنا

3 - هنا

4 - هنا