الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

فلسفة الحرب

استمع على ساوندكلاود 🎧

يرتكز موضوع فلسفة الحرب إلى أربعة أسئلةٍ:

ما هي الحرب؟

ما الّذي يسبّبها؟

ما علاقتها بالطّبيعة البشريّة؟

هل يمكن أن تُبرَّر أخلاقيّاً؟

1) ما هي الحرب؟

إنّ أصل الكلمةِ الإنكليزيّةِ المقابلةِ كلمةَ حربٍ العربيّةَ الارتباكُ والخلافُ والصّراعُ. وبالرّغم من معرفةِ الباحثين أنّ عليهم توخّيَ الحذرِ في دراسة تعريف الحرب - كما ينبغي ذلك في دراسة تعريف أيّ ظاهرةٍ طبيعيّةٍ أُخرى - تعدّدت تعاريفُها، وغالباً ما اتّبعت مواقفَ سياسيّةً أو فلسفيّةً محدّدةً.

يعرّف الفيلسوف الرّومانيّ شيشرونُ الحربَ بأنّها النّزاع على الأقوى، ويضيفُ الفيلسوفُ الهولنديُّ هوڠو ڠروتيوس أنّ الحربَ حالةُ تنازع الأحزاب، ويقول الفيلسوفُ الفرنسيُّ دينيس ديدرو إنّ الحربَ مرضُ تشنّجٍ عصبيٍّ في الجسم السّياسيّ، ويعرّفها المنظِّرُ العسكريُّ البروسيُّ كارل فون كلاوزفيتز بأنّها امتدادٌ للعلاقات السّياسيّة يعتمدُ على وسائلَ مختلفةٍ، وأنّ الحربَ ليست فنّاً ولا علماً، بل هي شكلٌ من أشكال الوجود الاجتماعيّ.

والحربُ - كما يعرّفها قاموسُ ويبستر Webster - حالةٌ من النّزاعات المسلّحة العدائيّة المفتوحة والمُعلَنة بين الدّول.

ويقدّم المؤرّخ العسكريّ جون كيڠَن توصيفاً لنظريّة الحرب السّياسيّة العقلانيّة في كتابِه تاريخِ الحربِ، إذ افترض أنّ الحربَ علاقةٌ منظَّمةٌ تنخرط الدّولُ فيها، وبداياتُها معلنةٌ ونهاياتُها متوقَّعةٌ، والمقاتلون فيها يمكن تمييزُهم بسهولةٍ، والمرؤوسون فيها شديدو الطّاعة. وهكذا يشير كيڠَن إلى أنّ النّظريّة العقلانيّة ليست جيّدةً في التّعامل مع الشّعوب الّتي لا دولَ لها أو الّتي هي في مراحل ما قبلَ الدّولة.

وثمَّ تعريفٌ بديلٌ للحرب يقول إنّها ظاهرةٌ شاملةُ الانتشار في الكون، وبالتّالي فإنّ المعارك ما هي إلّا مجردَ أعراضٍ لطبيعة الكون الكامنة العدوانيّة، ويتوافق هذا التّوصيفُ مع الفلسفة الهيڠليّة. وحتّى الفيلسوفُ الفرنسيُّ فولتير اتّفق مع هذا التّوصيف، فقال في القاموس الفلسفيّ: المجاعة، والطّاعون، والحرب هي المكوّناتُ الثلاثةُ الأشدُّ شهرةً لهذا العالم البائس… الحيواناتُ جميعُها في حالة حربٍ مع بعضها البعض... الهواء والأرض والماء ساحاتُ فتكٍ وتدميرٍ.

نجد أنّ لكلّ تعريفٍ نقاطُ قوّةٍ ونقاطُ ضعفٍ في تمثيله المسألةَ الفلسفيّةَ الأولى للحربِ، ولكن غالباً ما يكون التّعريف تتويجاً لمواقفِ الكاتبِ الفلسفيّةِ.

2) ما الّذي يسبّب الحربَ؟

نطاقُ الآراء تحت عنوان مسبّباتِ الحربِ واسعٌ، فبعضٌ يرى أنّ الحرب حدثٌ حتميٌّ لا مفرَّ منه، وآخرون يتقبّلون هذه  الحتميّة، ولكن يرون أنّ الإنسان يستطيع تخفيفَ معاناته بواسطةِ الحرب كما يخفّف خطرَِ الإصابة بالمرض بواسطة الأدوية. يشير هذا الفكر ضمنيّاً إلى أنّ الإنسان ليس مسؤولاً عن أفعاله، وبالتّالي ليس مسؤولاً عن الحرب. والحجج من هذا المنظور معقّدةٌ، لأنّها غالباً ما تفترض أنّ البشريّة ككلٍّ تخضع لقوىً تدفعها إلى شنّ الحروب.

ويؤكّد آخرون أنّ الإنسانَ حرُّ الاختيار، وأنّ الحرب نتاجٌ لاختياره، فهو بالتّالي من يتحمّل مسؤولية هذا الاختيار كلّاً. وهؤلاء من يرون أنّ الحرب من الخيارات الّتي يختارها الرّجل لإبرازِ قوّته السّياسيّة والأخلاقيّة.

يؤكّد العقلانيّون على فعاليّة العقل البشريّ في الشّؤون الإنسانيّة، ويرون بالتّالي أنّ الحرب نتاج العقل. وكثيرٌ من الّذين يُرجِعون أصول الحرب إلى تخلّي الإنسان عن العقل يستمدّون أفكارهم من أفلاطونَ الّذي يقول: "الحروب والثّورات والمعارك تتجلّى ببساطةٍ في الجسم ورغباته" عانياً بذلك أنّ شهوة الرّجل أحياناً أو دائماً تتغلّب على قدرته على التّفكير، ما يؤدّي إلى انحطاطٍ معنويٍّ وسياسيٍّ. انتشرت أصداءُ نظريّات أفلاطونَ انتشاراً واسعاً في الفكر الغربيّ، فعلى سبيل المثال، يرى فرويد أنّ الحرب تنبع من غريزة الموت، ويشير دويستوفسكي في روايته الإخوة كارمازوف إلى الهمجيّة المتأصّلة في الإنسان.

إنّ التّركيز على عقلانيّة الإنسان كسببٍ للحرب يُخفي عن الأنظارِ بنىً ثقافيّةً عميقةً قد تقف في وجه النّداء العالميّ إلى السّلام. وبالتّالي يحتاج دارس الحرب إلى استكشاف ما هو أبعدُ من التّعاريف والتّفاسير المقدَّمةِ لينظر في المشاكل الفلسفيّة الأوسعِ الّتي غالباً ما تُخفيها.

3) ما العلاقة بين الطّبيعة البشريّة والحرب؟

عندما نتحدّث عن العلاقة بين الطّبيعة البشرية والحرب يجب أن نذكر الفيلسوفَ والرّياضيَّ الإنكليزيَّ توماس هوبز، الّذي يعرض حالةً طبيعيّةً يُسلَّط الضّوء فيها على الطّبيعة البشريّة. إذ يؤكّد أنّ الحالة الطّبيعية هي الحرب ما لم توجد سلطةٌ خارجيّةٌ لفرض القوانين. وقد اتّبعه عديدٌ من الفلاسفة مثل لوك وروسّو وكانط. يتّفق الإنكليزيّ جون لوك مع هوبز فيرى أنّ المستفيدين من عدم وجود تشريعاتٍ وقوانينَ موجودون دائماً. ويتطرّق الفيلسوف الفرنسيّ روسّو إلى أنّ الدّول لا بدّ أن تكون نشطةً أي عدوانيّةً، وأنّ الحرب أمرٌ لا مفرّ منه وأنّ أيَّ محاولةٍ للاتّحادات السّلمية غيرُ مجديةٍ. أمّا كانط فيرى أنّ الصّراع الفطريّ بين الدّول يدفع البشريّة إلى السّعي إلى السّلام والاتّحاد، ولكنّنا نلجأ إلى الحرب عندما تغيب البنى الشّاملة، فالحرب عند الألمانيّ كانط تبدو إنسانيّةً، بل إنّها تُعدّ أمراً نبيلاً يستلهمه الرّجل من حبّه الشّرفَ دون دوافعَ أنانيّةٍ.

يقول السّياسيّ الأمريكيّ كينيث والتز في كتابه الإنسان والحرب والدّولة إنّ الطّبيعة البشريّة - لا شكّ - تلعب دوراً هامّاً في نشوء الحرب، ولكنّها لا يمكنها بحدّ ذاتها أن تفسّر الحرب والسّلام، فبكلّ بساطةٍ أحياناً يحارب الإنسان وأحياناً لا يحارب.

4- هل يمكن أن تكون الحرب مبرّرةً أخلاقيّاً؟

نجد ممّا سبق أنّ هناك عدداً كبيراً من الآراء الّتي تؤيّد الحرب، وبعضها يبرّر استخدام الحرب في الدّفاع عن النّفس فقط. وانطلاقاً من موقف السّلم، يقول البعض بضرورة استخدام الحرب كوسيلةٍ لدعم السّلام والدّفاع عنه، ولكنّ هذه المواقف قد تسمح بحروب العدوان والاستعمار لتحقيق هذا الهدف بذريعة ما يسمّى الأخلاقَ السِّلميّةَ.

المؤيّدون من الكتّاب أيّدوا الحرب كوسيلةٍ لتحقيق أهدافٍ مختلفةٍ غير السّلام، منها صياغة الهويّة الوطنيّة  ومنها متابعة التّوسّع الإقليميّ، ومنها التّمسّك بمجموعةٍ متنوّعةٍ من الفضائل كالمجدِ والشّرفِ (الدّاروينيّون الاجتماعيّون).

ويمكن القول إنّه لا يوجد عقلٌ إنسانيٌّ أو أخلاقيٌّ ينزع إلى العنف غير المبرَّر، وهناك فرقٌ كبيرٌ بين هذا الّذي نسمّيه عنفاً غيرَ مبرّرٍ وما يمكن أن نسمّيه عنفاً مبرَّراً.

الحروب العنيفة غيرُ المبرّرةِ حروبٌ عمياءُ غيرُ إنسانيّةٍ، وكلّ حربٍ عمياءَ هي دمارٌ للإنسانيّة، وهي جنونٌ، وهي موتٌ للأخلاقِ والإنسانيّة.

أخيراً نجد أنّ فلسفة الحرب معقّدةٌ وتتطلّب من المرء التّعبير عن التّفكير في مجالات الميتافيزيقيا والمعرفة وفلسفة العقل والسّياسة والأخلاق.

 

 

المصدر: هنا