الفيزياء والفلك > فلسفة الفيزياء والكونيات

كيفَ أنهَت الفيزياءُ الجدلَ بين الحتميّة والإرادة الحرّة؟

يمكنكم الاستماع إلى العمل عبر الرابط:

يُقال إنّه مِن الحماقةِ  تكرارُ الشّيء ذاتِه مرّاتٍ عدة ثمَّ توقُّعُ نتائجَ مختلفةٍ، ولكن هل يُمكن تَوقُّع نتائجِ كُلِّ شيء؟ وهل يُمكن أن يؤدّي السّببُ ذاتُه إلى نتائجَ مختلفةٍ لا تحكمها سِوى الصّدفة؟  

معظمُ الفيزيائييّن - من إسحاق نيوتن إلى ألبرت آينشتاين - كانوا سيرفضونَ ذلك، ففي نظرهم؛ كُلُّ سببٍ سيؤدّي إلى نتيجةٍ واحدةٍ محدَّدةٍ مُسبَقاً مِن قِبل قوانينِ الطّبيعة التي تَحكُم الكون حكماً مُطلَقاً؛ وأمّا الصّدفةُ والاحتمالاتُ فَلا دورَ لها في الطّبيعةِ، أو كمَا عبّر عنها آينشتاين في مقولته الشهيرة : "الله لا يلعبُ النّرد في الكون" .

ولكن مع تطوّرِ فيزياءِ الكم والنتائجِ الغريبةِ والمُذهلة التي جلبتها؛ يُعاود السّؤالُ ظهورَهُ مُجدَّداً: هل تُوجد بالفعل صدفةٌ في الطّبيعة؟ وهل كان آينشتاين مُخطئاً؟

آمنَ العديدُ مِن العُلماء مِن أمثالِ نيوتن ولابلاس وحتّى ألبرت آينشتاين بأنَّ الكَون يَعملُ تماماً مِثل السّاعة؛ أي بقوانينٍ مُحددّةٍ ودقيقة وما عَلينا سوى اكتشافُ هذه القوانين حتّى نَتمكّن مِن التّنبؤ بالمُستقبل تنبُّؤاً دقيقاً لا يَقبلُ الرّيب.

ويُطلقُ على هذا الاعتقاد في الفلسفة بالحَتميّة السّببيّة التي تُعرَّف رسميّاً على الشّكلِ الآتي:

"الحَتميّة السّببيّة هي الاعتقادُ بأنَّه يُمكِنُ استنتاجُ المُستقبل بالاعتمادِ الكاملِ على الحاضِر وقوانين الطبيعة".

وقَد يَذهبُ بعضُ الحتميين للقول بأنَّ سُلوكَ البشرِ - كما حركةُ الأجسامِ - تُحدُّده مورثاتُهم مُسبقاً مِن  البيئةِ التي نشؤوا فيها أو مِن خِلال التّفاعلاتِ الكيميائيّةِ في أدمغتهم، فخَياراتنا وقراراتنا - بالتّالي - هي نتائجُ حتميّةٌ تحدِّدها قوانينُ الطّبيعة، والتي إن استطعنا فهمَها كُليّاً فسوف نقدرُعلى التّنبؤ بسلوكِ البشر تنبُّؤاً حَتميّاً؛ وبِمعنىً آخر؛ تبعًا للحتميّة السببيّة فإنَّ البشر لا يملكون حُريّة الخَيار في ما يفعلونَه، بل إنّهم كما الكرةُ التي تَسقطُ بفعلِ الجّاذبيّةِ تحتَ تأثيرِ قواعدِ الطّبيعة، فما تأكلُه على العشاءِ مثلاً قد يبدو  خيارًا شخصيًا، ولكنّه في الحقيقةِ مُحدَّدٌ مُسبقاً مِن قِبل هذه القواعد التي على الرّغم مِن جَهلنا ببعضها حالياً فإننا نُؤمنُ بوجودِها، وبذلك فلو عادَ الزّمنُ بك إلى الوراء لاخترتَ الطّبقَ نفسَه على العَشاء.

إن لم تقتنِع بالحتميّة حتّى الآن؛ وإذا كُنت تَعتقدُ بأنّك تَملكُ الحريّة في اختياراتك فأنتَ لستَ الوحيد، إذ عارض كثيرٌ من الفلاسفة مَفهومَ الحتميّة بشكلهِ هذا، وطوَّروا نظريّتهم الخاصّة التي أطلقوا عليها اسمَ الإرادةِ الحرة، فهم يُؤمنونَ بأنَّ البشر يملِكون الإرادة في اختيار ما يَحلو لهم، ولو عاد الزّمن إلى الوراء لكان بإمكانِ البشرِ تَغييرُ قراراتِهم؛ فليسَ كُلّ شيءٍ في الكَون مُحدّدٌ مُسبقاً كمَا يدّعي الحَتميون بل إنَّ جُزءاً كبيراً مِنه يتبعُ أهواءَ البشر.

قَد تتساءلُ الآن إذا كانَ هذا النّقاشُ مُهماً فِعلاً في الحياةِ اليوميّة أم أنّه مُحاولةٌ مِن الفلسفةِ لتعقيدِ الأمورِ البسيطةِ؟ في الحقيقةِ إنَّه مهمٌّ جدًا فهو يتعلّقُ مُباشرةً بمفهومِ المسؤوليّةِ الأخلاقيّة، فهل يَجبُ أن نُعاقِبَ المُجرمَ إذا لم يكن الجرم الذي ارتكبَه نابعاً من إرادته، بل نتيجةً حتميّةً  لقوانينِ الطّبيعة؟ وهل مِن المُمكن تفادي قرار خاطئ اتخذّتَه في الماضي أم أنَّ هذا الخطأ مُحتّمٌ عليكَ؟

وعلى الرّغمِ مِن أنَّ كفّةَ الإرادةِ الحُرّة قَد تبدو الرابحةَ فيما يتعلّقُ بسلوكِ البشر، لكنّ الحتميّة تظهرُ على نحوٍ أوضحٍ في العُلومِ الطّبيعيّةِ؛ ففي الفيزياءِ الكلاسيكيّةِ -مثلاً - لا يُمكن أن يتحرّكَ جِسمٌ ما مِن تِلقاءِ نفسِه، بل يجبُ وُجود قوّةٍ تؤثّر عليهِ وتدفَعُه إلى الحركة، وبمعرفةِ هذه القوّة وحالةِ الجسمِ الابتدائيّة يُمكن تحديدُ مكانِه وسُرعتِه في أيّة لحظةٍ لاحقةٍ مِن الزّمن، وفي الكهرطيسيّة أيضاً تُحدِّدُ مُعادلاتُ ماكسويل سُلوكَ الحقولِ الكهربائيّةِ والمِغناطيسيّة تحديداً يسمحُ بتتبّعها بدقّةٍ كبيرةٍ مع مُرورِ الزّمن .

وقد بقيت الحتميّةُ غالبةً على الفيزياء حتّى بدايةِ القرنِ العِشرين؛ فمَع تطوّرِ نظريّة الكَم ونتائِجها الغريبةِ عادَ النّقاشُ عن الإرادةِ الحُرّة إلى الظّهور مُجدّداً؛ فعلى عَكسِ الكَواكبِ ذاتِ المساراتِ المُحددّة تتبعُ الإلكترونات سُلوكاً أكثرَ غرابة! فقد اكتشف  العالِم الألمانيّ فيرنر هايزنبرغ أنّهُ لا يُمكن تَحديدُ سُرعة الإلكترون ومكانِه معاً في الوقت ذاته، فإذا عَلمنا مَكان الإلكترون خسِرنا المعلوماتِ عن سُرعته والعكسُ صَحيح، ووفقاً لعالمِ فيزياء الكم بورن فإنَّه لا يمكننا التنبؤ بمَوقعَ الإلكترون، ممَّا يَجعلُ عَالمَ الجسيماتِ الذّريّةِ بأكملهِ مَحكوماً بالاحتمالات وليس مُحدداً مُسبقاً كما يُجادلُ الحتميون.

وسبّبت هذه النتائجُ بالطّبعِ جدلاً واسعاً بين فيزيائييّ ذلك العصر، فالفريقُ الأوّلُ مِن الحتميين بزعامةِ ألبرت آينشتاين عبّرَ عَن رفضِه لمبدأ هايزنبرغ بمقولة آينشتاين الشّهيرة: "الله لا يلعبُ النّردَ في الكون"، وعزا هذه العشوائيّةَ إلى قصورِ مَعرفتِنا للبِنيةِ الأساسيّةِ للمادّة وتفاعُلاتِها.

وأمّا الفريقُ الثّاني بزعامةِ كلٍّ من هايزنبرغ والعالِم الدنماركيّ نيلز بور فقد دافع عن هذا المبدأ، إذ كانوا يؤمنونَ بوجوبِ تّصديقِ المُعادلاتِ الرّياضيات حتى لو أدّى هذا إلى التّخلي عَن فِكرة الكونِ الحتميِّ التّقليدية.

وحُسِمَ هذا الجدالُ في مؤتمرِ سولفاي الشّهير عام 1927 بانتصارِ مبدأِ عدم اليقين لهايزنبرغ الذي أصبحَ مقبولاً الآن في جميعِ أوساطِ الفيزيائيين، فمع أنّه يَصعُب التّخلي عَن فِكرة حتميّة قوانينِ الفيزياء ولكن لابدَّ لنا في النّهايةِ من التّسليمِ بنتائجِ التّجارب والقياسات، فالكونُ ليسَ مُحدداً مُسبقا كما تمنّاه آينشتاين، بل إنّه يَحمِل في ثناياهُ على الدوام جُزءاً مِن العشوائيّة.  

للمزيد عن الإرادة الحُرّة : هنا

مبدأ الريبة :هنا

الجدال بين الحتميّة والإرادة الحُرّة: هنا

المصادر:

1 - هنا

2 - هنا

3 - هنا

4 - هنا

5 - هنا