الفنون البصرية > أيقونات فنية خالدة

مشهد الموت بريشة الفنان وعين الصديق

شكلتِ الثورةُ الفرنسيةُ وما تلاها من رعبٍ مسرحاً مليئاً بمشاهدِ الدِّماء والألم والمعاناة، ممَّا ألهم الفنانين في تقديم أعمالٍ فنيَّةٍ خلَّدها التاريخ، ومنهم الرَّسام الفرنسي جاك لويس ديفيد؛ أحدُ أبرز فنانِي المدرسةِ الكلاسيكيةِ الذي قدَّم لنا لوحة "The Death of Marat" أو "موت مارات".

أشاد النقّادُ عالمياً بالعديدِ من لوحاتِ ديفيد التاريخيةِ مثل "موت سقراط" و"قسم الإخوة موراتيوس" التي امتازت بخاصيَّاتٍ فنيَّة تخصُّ العمل السياسي، وكان كذلك ناشطاً سياسياً ونظَّم المهرجانَ العظيمَ للشعب في الرابع عشر من تموز عام 1790، وبحسب المؤرخين؛ وقَّع ديفيد على أوامر تنفيذ حكمِ الإعدامِ لأكثر من 300 ضحية، وترأس نادي اليعاقبة في اليوم الذي قُتِلَ فيه أحدُ أعزِّ أصدقائه؛  جان بول مارات.

تولَّى "مارات"؛ صديقُ "ديفيد" عدةَ مناصبَ، ومنها: أمانة سر حزب اليعاقبة، ورئاسة تحرير صحيفة : L'Ami du Peuple؛ وقد عُرِفَ بكونه خطيباً قويَّاً، وانقسمت آراءُ الناسِ عنه؛ فمنهم من رآه وطنياً ملتزماً، في حين عدَّه آخرون زعيماً للشرذمة التي استولت على الحكم.

وفي 13 تموز عام 1793؛ تمكَّنت ابنةُ العائلة الملكية شارلوت كورداي من التحايل على مارات لِيسمحَ لها بالدخول إلى شقته، ثمَّ طعنته وهو في حوض الاستحمام الذي استخدمه عادةً للعلاج من الأمراض الجلدية التي عانى منها.

وإثرَ هذه الحادثة؛ استُدعِيَ ديفيد من قِبَل النادي لتحضير مراسم جنازة مارات ورسمِ لوحةِ جثمانه، ولكنَّ جثةَ مارات كانت قد بدأت بالتحلّل ممَّا جعل رسمها مباشرةً مستحيلاً، وقد رأى ديفيد في مارات نموذجاً للفضيلة فوافق بحماسٍ على رسم لوحةِ موته، ولمّا كان ديفيد قد زارَه في اليوم السابق لوفاته فقد كوَّن صورةً مثاليةً للمشهد بتفاصيله كلِّها؛ كوضع الغرفة، والحوض، والورقة، والبساط الأخضر، وأهمُّها بالطبع؛ قلمُ الصحفي.

نرى في اللوحة مزيجاً من ملامح العذاب ومعالم الرقة والسلام التي تتزايد مع اقتراب الموت، ونلاحظ جفنَي "مارات" شبهَ المغلَقَين، ورأسَه المتثاقل بين كتفيه، ويدَه اليمنى المتهاوية نحو الأرضية، وقد أضاف ديفيد بعضَ التفاصيل المحيطةِ بالجسد الميت والتي استعارها من الواقع مثل: السكينِ المغطاةِ بالدِّماء مرميَّةً على الأرضية بعد أن سبَّبت لمارات جرحاً مميتاً، إضافة إلى رسالةِ استرحامِ شارلوت في المقدمة؛ والتي كُتب فيها: "يا شقائي العظيم، هَبني نصيباً من لطفك"، وكذلك نلاحظ الصَّكَ الذي كان مارات يحضّره؛ وقد كُتِب فيه: "ستعطي هذا الصكَّ الى أمِّ الأولادِ الخمسة التي مات زوجها لحماية بلده".

تشهد الورقتان بصمتٍ على تقدير ديفيد للضَّحية ونقمته على القاتلة، ويبدو الوجهُ والجسمُ والأشياءُ جميعُها مشوّشةً، بينما يتَّضحُ الضوءُ ويترامى بنعومةٍ على ملامح الضحية، ويُسلَّطُ بحدَّة على رسالة القاتلة، لتُترَكُ بقيةُ التفاصيل في الظِّلِّ.

يمكن القول أنَّ هذا التفاعل الدَّقيقَ والمتناغمَ يبيِّن حالة السلام والانسجام بين الرسم والرَّسام؛ إنّما تعبّرُ عن مشاعرِ الرحمة والغضب التي تملَّكت ديفيد أثناء رسم صديقه المُتوفَّى.

عُرضت اللوحة على الاتحاد في 15 تشرين الثاني عام 1793، ولقيت استحساناً ومديحاً بالغاً، ثمَّ أُعيدت إلى منزل ديفيد بعد وفاة روبزبيير وأُنقذت من الضياع بعد وفاة ديفيد.

وأمَّا الآنَ؛ فيمكنك زيارتُها في متحفِ بلجيكا الملكيّ للفنون الجميلة في العاصمة بروكسل.

* أُنجِزَتِ اللوحةُ بالألوانِ الزيتية على القماش

* أبعاد اللوحة 65x50 سم.

 

المصادر:

1 - هنا

2 - هنا