الفلسفة وعلم الاجتماع > الفلسفة السياسية

الثّورة السّياسيّة

استمع على ساوندكلاود 🎧

تُعرَّف الثّورة عادةً بأنّها التّحوّل السّياسيّ الاجتماعيّ الجوهريّ. منذ عصر الثّورات في القرن الثّامنَ عشرَ، طوّر الفلاسفة السّياسيّون والباحثون النّظريّون نهجاً يهدف إلى تحديد أشكال التّغيير الّتي يمكن عدُّها ثوريّةً، وإلى تحديد ما إذا كان بإمكان الظّروف تبريرُ التّغييرِ بواسطة الحجج المعياريّة.

رغم أنّ مصطلح الثّورة (Revolution) نشأ في ميدانَي علم الفلك والتّنجيم، شهد  تسييساً متصاعداً تدريجيّاً منذ القرن السّابعَ عشرَ. ومع التّقلُّبات الّتي طرأت على دلالات الألفاظ والّتي غالباً ما تعكس صُلبَ الأحداث و التّجاربَ السّياسيّة، فَقَدَ هذا المصطلح معناه المركزيَّ ألا وهو الانتظام. فهذا المصطلح يؤكّد في سياقه السّياسيِّ على لحظات التّفرّد وانعدام الانتظام والقدرة على التّنبّؤ، بينما يعبّر في دراسات نيكولا كوبرنيكوس عن الحركات المنتظمة للأجرام السّماويّة وعن الطّابع المتكرّر للتّغيُّر بالتّالي.  

تاريخ مفهوم الثّورة:

وُظِّف مفهوم الثّورة لوصف التّحوّل السّياسيّ، إذ يرمز هذا المصطلح بشكله الشّائع للشّكل المثاليّ للتّغيير السّياسيّ الّذي لا يعني تغيير القوانين، والسّياسات، والحكومة فحسْبُ، بل التّغييرَ العميق والدّائم للنّظام القائم. تفتقر مفاهيم التّغيير السّياسيّ الّتي سبقت هذا المفهوم إمّا إلى فكرة قدرة الشّعب الذّاتية على الفِعلِ أو إلى فكرة حقّه بالحرّيّة.

إضافةً إلى ذلك، يعلّلُ غيابُ عاملين أساسيّين كونَ مصطلحِ الثّورة لم يحمل معنى التّحوّل السّياسيّ الاجتماعيّ الجذريّ قبل العصر الحديث، وهذان العاملان هما:

1) على الصّعيد التّاريخيّ، تأسيسُ ما يُدعى الدّولةَ القويّةَ الّتي تقود إلى تصورٍ سياسيٍّ للتّحرّر الجذريّ من ظلم الدّولة ولتأسيس نظامٍ مختلفٍ جوهريّاً كنتيجةٍ لذلك التّحرّر.

2) على صعيد المفهوم، يسمح تبنّي نماذجَ خطّيّةٍ من الفكر بدلاً من تصوّرات التّاريخ الدّوريّة الّتي تبنّاها أرسطو وبوليبيوس وشيشرون وميكافيلّي بفكرة التّقدّم غير العكوس في السّياسة والمجتمع. وفي سياق هذا التّحول في التّفكير التّاريخيّ، تُعدُّ الثّورة العامل المحفِّزَ والممكِّنَ للتّقدّم.

ارتبطت هذه المفاهيم بالفوضى السّياسية والحرب الأهليّة في الفكر السّياسيّ القديم وفكرِ العصور الوسطى. فحتّى في أعمال ميكافيلّي، أحدِ مفكّري مطلع العصر الحديث، لم تتبلور فكرة ثغرةٍ مطلقةٍ أو تمزّقٍ جذريٍّ في النّسيج السّياسيّ. ورغم أنّه اشتغل بالتّغيير السّياسيّ، تجاوزَ مفاهيمَ مفتاحيّةً مرتبطةً بالموضوع كالتّجديد (Rinnovazione) والتّحوّل (Mutazione) والتّغيير (Alterazione) لقناعته بأنّ التّحولاتِ جميعَها -حالُها حالُ أشكال الدّساتير- لا تخرج من حلقة التّكرار السّياسيّ.

وفي القرنين السّابعَ عشرَ والثّامنَ عشرَ، انعكس اكتشاف الثّورة كموضوعٍ ذي صلةٍ بالسّياسة على الفلسفة السّياسيّة والأخلاقيّة ودُعِمَ بها.

قدّم جون لوك في مقالته الثّانية عن الحكومة المدنيّة عام 1689م دفاعاً مؤثّراً عن حقّ المقاومة والتّمرّد وحتّى الثّورة. حتّى إنّ نظريّته في العقد الاجتماعيّ تقدّم هذا الحقّ لحماية الفرد من ظلم الدّولة وقسرها كتجسيدٍ سياسيٍّ للحقّ الطّبيعيّ الفرد الطّبيعيّ وغير القابل للمصادرة في الحياة والحرّيّة والملكيّة، متخطّياً بذلك اعتبارات توماس هوبز في حقّ التّابعة بالدّفاع عن نفسها ضدّ السّيد إن كانت حياتُها مهدَّدةً.

وكذلك هَدَفَ جان جاك روسّو في حواره عن أصل عدم المساواة عامَ 1755م، وفي العقد الاجتماعيّ عامَ 1762م، إلى فضح التّدنّي الأخلاقيّ في الحكم القديم وعدم شرعيّته، واقترح دستوراً سياسيّاً شرعيّاً يدعم الحرّيّة والمساواة ليحل محلّه.

وفقاً لروسّو، الإرادة العامّة تغلب إرادة الحاكم كموجِّهٍ للسّياسة، ما يعني أنّ الشّعب له الحكم الذّاتيّ والسُّلطة العليا ما يجعله في حالةٍ من الذّاتيّة السّياسيّة الكاملة. وهكذا تجتمع اعتبارات روسّو ولوك لتشكّل إعادة تقييمٍ لأفعال الاحتجاج والتمرّد، فلا يمكن عدُّ الّذين يمارسون هذه الأفعالَ مجرمين سياسيّين أو أعداءَ شعبٍ كما كان الحال قبل تقويض اللّاهوت السّياسيّ للحكم المطلق والاقطاعيّة اللّذَينِ كانا يعتمدان كثيراً على الاعتقاد بالحقّ الإلهيّ للحاكم. بدلاً من ذلك، بفضل تنوير الفكر السّياسيّ عموماً ونظريةِ الحقوق الطّبيعيّة والعقدِ الاجتماعيّ لروسّو ولوك خصوصاً، أصبحت هذه الأفعال تُعَدُّ ممارسةً لحقّ تقرير المصيرالسّياسيّ، ما هو مبرّرٌ عقلانيّاً وأخلاقيّاً.

رغم أنّ لوك وروسّو لم يقدّما نظريّاتٍ مفصّلةٍ عن الثّورة، يعود بهما الفضل في تطوير أركانٍ أساسيّةٍ لأيّ نظامٍ سياسيٍّ، وهيّأت أعمالُهما الأرضيّةَ لفكرتين رئيسيّتين في العصر الثّوريّ: حقوقِ الإنسان الطّبيعيّة وحقِ السّيادة الوطنيّة.

نتيجةَ وفرة العوامل الفكريّة، تحقّق الفهم الحديث للثّورة عند قيام الثّورات في أواخر القرن الثّامنَ عشرَ، فهي مصطلحٌ قتاليٌّ في الممارسة السّياسيّة ومفهومٌ نضاليٌّ أساسيٌّ في النّظريّة السّياسيّة.

المصدر:

هنا