الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

"دون خوان" بركةٌ غامضةٌ في القطب الجنوبيّ لا تتجمَّد!

استمع على ساوندكلاود 🎧

تتوضّعُ في الجزء السفليّ من هذا العالم -تحديداً في الصحراء القطبيّة الجنوبيّة المُتجمِّدة- بركةٌ غريبةٌ شديدةُ الملوحة، ويصل عمقها إلى بضع بوصات فقط، وتبقى هذه البركة بحالتها السائلة على الرغمِ من درجة الحرارة المنخفِضة جداً والبالغة (50-) درجة مئويّة.

شكّلَ مصدرُ الملحِ النقيّ غير الاعتياديّ الذي تحتويه هذه البركةُ لغزاً جيوكيميائيّاً منذُ اكتشافِها في رحلةٍ استطلاعيّة عام 1961، وقد افترضَ العلماء عموماً أنَّ بركة دون خوان (المُسمّاة على اسم أحد طيّاري الرحلة الاستطلاعيّة) تتغذّى من المياه الجوفيّة العميقة، ولكنَّ دراسةً نُشِرَت عام 2013 اقترحَت أنّ الأملاح جاءت من مَصدرٍ ضَحل، فبرزَت دراسةٌ جديدةٌ نُشِرَت في 15 أيلول 2017 استخدمَ فيها الباحثون نماذجَ حاسوبيّة عن كيميائيّة البركة للاعتراض على هذا الاكتشاف.

وتُعدُّ هذه المنطقةُ واحدةً من أقرب النظائرِ الأرضيّة لكوكب المرّيخ، لذلك فإنَّ فهمَ كيفيّة تدفُّق المياه عبرَ البركةِ والمنطقة المحيطة بها يمكن أن يساعدَ العلماء على فهمِ سلوك ملامِحَ مُشابِهةٍ على الكوكب الأحمر.

ولا يُشابِهُ الملحُ في بركة دون خوان الملحَ الذي يُرَشُّ على الطعام، إذ إنّ 95% منه هو كلوريد الكالسيوم؛ ممّا يخفّضُ على نحوٍ كبيرٍ من نقطةِ تجمُّدِ الماء، وهذا ما يساعد على بقاء البركة بحالتها السائلة حتَّى في شتاء القطب الجنوبي المرير.

ويجعلُ كلُّ هذا الملحُ الماءَ أكثر كثافةً ولزوجةً من المياهِ التي تتدفّقُ من الصنابير أو تجري على الشواطئ، ممّا يعطيها درجةَ لزوجةِ القَطر أو الزيت تقريباً.

إنّ درجة ملوحة البركة مرتفعةٌ جداً (حوالي 40% وزناً)، وذلك بسبب عاملَين:

الأولُ: معدّلُ التبخُّرِ المرتفع في البيئة الجافّةِ للغاية في وديان McMurdo الجافّة حيثُ توجدُ البركة.

والثاني: قدرةُ كلوريد الكالسيوم على تشكيلِ محاليلَ مُركّزَة أكثر بكثير من ملح الطعام (كلوريد الصوديوم).

ولكنّ كلّاً من مصدرِ هذا الملحِ وسببِ نقاءِ هذه البركةِ كيميائيّاً بقيَا أسراراً غامضةً مدّةً طويلة، ويصعب حلُّ هذه الأسرار لأنّ البركة كانت منطقةً محميّةً لمنع أيِّ تلوُّثٍ، فكان هنالك قيودٌ على أخذِ العيّنات ودراسةِ المنطقة.

وبالعودة إلى دراسةِ عام 2013؛ فقد استخدمتِ التصويرَ الفوتوغرافي طيلةَ فتراتٍ متلاحِقةٍ من الزمن لمراقبة تدفّق المياه حول البركة، وخَلَصَ المؤلّفون إلى أنّ كلوريد الكالسيوم الموجود في التربة المحيطةِ يمتصُّ الماءَ من الغلاف الجوّيّ عندَ وصولِ الرطوبةِ إلى ذروتها، وظهرَت تلك المياه كخطوطٍ داكنة من الأرضِ على المنحدرات قرب البركة، وظنَّ الباحثون أنَّ الذوبان الدوريّ للثلوج أدّى إلى وصول الأملاح إلى البركة، أمَّا باحثو الدراسةِ الجديدةِ فقد اختلفوا تماماً مع مؤلّفي الدراسةِ السابقة، وذلك لأنّهم لم يعيروا اهتماماً للإثباتات السابقة بوجودِ مصدرِ مياهٍ جوفيّةٍ عميقةٍ يغذّي البركة.

فقد قارنَ الباحثون في الدراسة الجديدة المصدرَين المُحتمَلَين للملح -المياهَ الجوفيّة العميقة، والعمليّةَ الّتي وُصِفَت في الدراسة السابقة- مع نموذَجٍ كيميائيٍّ يقارن تركيبةَ مياه البركة مع ما يمكن توقُّعُ تطوُّرِه عبرَ التبخُّرِ من هذَين المصدرَين المختلِفَين، ووجدوا أنّ مصدرَ المياه الجوفيّة العميقة يتطابق تماماً مع النموذج وبدقّةٍ عاليةٍ جدّاً، في حين أنَّ المصدرَ الضَّحلَ لا يقتربُ من النموذج أبداً.

تتركُ هذه الدراسة السؤالَ مفتوحاً للإجابةِ عن مصدر المياه الجوفية العميقة، وقد اعتقدَ باحثو الدراسة القديمة أنّ المياه المالحة تتراكم عبر التُرَب المتجمِّدة وتتفاعلُ مع المعادن المحيطة بطريقةٍ تُنتِجُ أعمدةً من كلوريد الكالسيوم المُنقَّى (التي اكتشفوها من خلال الحفر في التربة)، ولكنّ هذه العمليّةَ تحدثُ ببطءٍ أكبر بكثير ممّا جاء في دراستهم الافتراضية عام 2013، إذ تحتاجُ العمليّةُ من آلاف السنين إلى عشرات الآلاف منها. ولكن يعتقدُ مؤلّفو الدراسة القديمة أنّ الدراسة الجديدة لا تنفي دراستَهُم؛ لأنّها لا تتناولُ مسألة المصدر النهائي للملح، ولأنَّ العمليّاتِ الموصوفةَ في كلتَا الدراستَين قد تكون مرتبطة، خلافاً لِما يعتقدُ مؤلّفو الدراسة الجديدة.

وتُظهِرُ الدراسةُ الجديدةُ أنّ مياه البركة مستمرّةُ التدفُّق أيضاً، ممّا يشير إلى أنّها مُتّصلة بنظام المياه الجوفية الواسع الذي يغذّي بحيرةً أُخرى في الوادي الغنيّ بكلوريد الكالسيوم، وإضافةً إلى ذلك يُعتقََدُ أنَّ خطوط المياه السطحية يمكن أن تكون مظهراً آخرَ من مظاهر نظامِ المياهِ الجوفية.

إنّ فهمَ كلٍّ من هذا النظام وخطوطِ سطح المياه التي تمتصُّها التُرَب المالحة يمكنُ أن يساعدَ في الكشف عن مزيدٍ من الخصائص المشابِهة على سطح المريخ، مع أنّه يستحيل -فعليّاً- امتلاكُ المريخ لنظامِ مياهٍ جوفيّةٍ واسعِ النطاق لأنّه ببساطةٍ شديد البرودة، وحتّى إن كانوا على حقٍّ بأنّ مصدر المياه هو من المياهُ الجوفيّة العميقة، فإنّ ذلك لا يمكنُ أن يحدث في المريخ اليوم.

وانطلقَ العلماءُ ضمن فريقٍ لاستكشافِ المنطقة حول بركة دون خوان وجمعِ عيّناتٍ منها في كانون الأول؛ بُغيةَ العثور على مزيدٍ من الأدلّة عن مصدرِ الأملاح وإمكانيّة ارتباطها بنظامِ مياهٍ جوفيّةٍ أكبر، ونبقى في انتظارِ النّتائج.

المصدر:

هنا