كتاب > الكتب العلمية

مراجعة كتاب .. الواقع ليس كما يبدو

استمع على ساوندكلاود 🎧

إذا ما سألنا عن كارلو روفيلي فهو صاحبُ كتابِ: سبعةِ دروسٍ مختصرةٍ في الفيزياء "Seven Brief lessons in Physics"، أحدُ أكثرِ الكتبِ مبيعاً في العالم، ولكن لِروفيلي كتابٌ آخرُ كان قد كتبَهُ قبل كتابِ" سبعةِ دروسٍ مختصرة في الفيزياء" بعنوان: الواقعُ ليس كما يبدو "Reality is not it seems"، وقد وصفَ في هذا الكتابِ نظرتَه للواقعِ بأسلوبٍ شعريِّ.

وأسلوبُ كتابةِ روفيلي قيثاريٌ بأفضلِ ما تسمحُ له الفيزياءُ في التّعبير عن نفسها، وإشارتُه لشعراءَ آخرينَ كالإيطالييَّن دانتي أليغييري "Dante Alighieri" و فرانشيسكو بتراركا "Francesco Petrarca" إنّما تُظهرُ حُبّاً وطنيّاً، وتُظهرُ الفهمَ للعلاقةِ بين الفيزياءِ والّنفسِ كشريكَينِ للإنسانِ في رحلةِ بحثهِ عن إيجادِ معنى وجودِ الكون؛ فكيف نلتمسُ عظمةَ الكونِ وقِصرَ عمرِ الإنسان دون أن نتفكّرَ في غايةِ وجودنا؟

استخدمَ الكاتبُ في كتابةِ أفكارهِ عن الجاذبيّةِ الكموميّة* طريقاً جديداً مغايراً للطّريق التّقليدي؛ إذ انطلقُ من جذورِ الفيزياءِ ابتداءً بالفيزياء قبلَ سقراط وصولاً إلى غاليليو ونيوتن؛ وانتهاءً بآينشتاين وفيزياءِ الكمّ، وقد أظهرَ روفيلي بطريقتهِ الجديدةِ موهبةً فذّةً في تلخيصِ أفكارٍ مُعقّدةٍ بجملٍ بسيطة.

فعلى سبيل المثال؛ كتبَ في وصف أُطروحةِ نيوتن عن نعتِ الفضاءِ بالفارغ والخامل: "حقلُ الجاذبيّةِ هو فضاء…. هو كيانٌ حقيقيٌّ، ذلك الكيانُ يتموّجُ ويتقّلب، ينحني وينثني"، وأمّا في وصفِ عالمِ الكمّ - حيث دليلُنا الوحيدُ على وجودِ الجزيئاتِ هو تفاعلُها مع محيطِها - فإنَّ روفيلي يكتبُ: "هي فقط في تفاعلاتٍ تجذبُ العالم" و"عالمُ الكمّ هو ليس عالَمُ الجزيئات، بل إنّه عالمُ الأحداث"، وتطابقُ نظرةُ روفيلي للعالَمِ نظرةَ فيلسوفِه المُفضّلِ أناكسيماندر "Anaximander": العالَمُ هو سيلُ أحداثٍ أبديٌّ، بعضُ تلك الأحداثِ كالصّخورِ وبعضُها كالبشر، بعضُها أكثرُ تحمّلاً وبعضها انضمَّ إلى أسطولِ العمليّات الكمّيّةِ الواقعيّ".

وإذا مثّلنا الواقعَ على أنّه شيء، فإنّ طبيعةَ ذلكَ الشّيءِ ستكونُ مخادعةً للغاية، وعندها سنطرحُ أسئلةً؛ هل يُمكنُنا فهمُ ذلك الشّيء؟ وهل يمكنُنا الوصولُ إلى نهايته؟ أم نحنُ مسجونونَ بطريقةٍ لا يُمكننا فيها كسرُ قيودِنا؟

في كتابِ جزيرة المعرفة "The Island of Knowledge" تتبّعَ الكاتبُ مارسيلو غليسر"Marcelo Gleiser" تطوُّرَ نظرةِ البشرِ للعالَم، ابتداءً من الوقتِ قبل سقراطَ وصولاً إلى عصرنا الحاليّ؛ مركّزاً على الطّبيعة المُخادعةِ للواقع، وكيفَ أنّه يعتمدُ على منظورِنا الشّخصيّ، فالعلمُ الّذي نمارسه سيُخبرنا يوماً بحقيقةٍ نهائيّةٍ، تلكَ الحقيقةُ ستبدو خاطئةً تاريخيّاً وساذجةَ فلسفيّاً.

ويقولُ الفيزيائيّ الألمانيّ فيرنر هايزنبيرغ "Werner Heisenberg": "نحن لا نرصدُ الطّبيعة، بل إنّ الطّبيعة تُظهر لنا الإجابات وفقاً لأسلوب طرح أسئلتنا"، فالطّريقةُ الّتي ننظرُ بها إلى العالَمِ تغيّرُ من طريقةِ وصفِنا له، وعلى الرّغمِ من أنّنا ننظرُ إلى العالمِ عبر عدسةِ العِلم؛ فإنّ المنظورَ في النّهاية هوَ منظورُ الإنسان، وإذا كان العلمُ أفضلَ طريقةٍ لتفادي الانخداعِ بتصوّراتنا، فإنّ العلمَ يعكسُ لنا تصوّراتنا أيضاً، إذاً فاللمسةُ البشرية موجودةٌ في كلّ شيءٍ نخترعهُ، حتى في العِلم!

تُبدّي نظرةُ روفيلي - إلى حدٍ ما - تطوُّرَ إجابتنا عبرَ الزّمان للسّؤال: مِمَّ صُنعَ العَالَم؟ أو ما يُدعى اليومَ بعلمِ الوجود "Ontology"؛ ففي الوقتِ الّذي عاشَ فيه نيوتُن كان العالمُ مؤلّفاً من المكان والزّمان والجزيئات، أمَّا اليومَ - وبعدَ أينشتاين وثورةِ ميكانيكِ الكمّ - أصبحَ العالمُ مكوّناً من الزّمكانِ والحقولِ الكموميّةِ، وعند هذه النّقطةِ يزدادُ التّوترُ، ونضعُ جُلَّ معرفِتِنا على المحكّ دونَ معرفةِ ما سيحصلُ لاحقاً، فنحنُ أمامَ افتراضاتٍ عديدةٍ؛ كنظريّةِ الأوتارِ والجاذبيّةِ الكموميّة الحلقيّة، وهذا ما يصفُه روفيلي بأنّه خطوتُنا القادمةُ نحو جوانبَ عميقةٍ من الواقعِ الفيزيائيّ. والمشكلةُ الكبرى أنّ النّظرةَ الشّغوفةَ أو المُفضلّة إلى العالم (أي أن ينحازَ المرءُ إلى فكرةٍ معيّنة)؛ غالباً ما تؤثّرُ على القرارِ الّذي يتّخذه أحدُناا، الأمرُ الّذي يجعلُنا ننحازُ إلى أمرٍ ما، والإقرارِ بأنّه أمرٌ مميزٌ أو أمرٌ لا يُمكنُ تفاديه، وذاك على الرّغمِ من أنّ الأمرَ قد لا يستحقُّ القرارَ الّذي اتخذناه، فالبشر يُصابونَ بالعمى عند الوصولِ إلى حدودِ معرفتهم؛ أي عندما يحاولونَ عبورَ الحاجزِ من المعروفِ إلى اللامعروف.

ما هي المشكلةُ في الجاذبيّةِ الكموميّةِ؟

من جهةٍ أولى؛ ساوَت نظريّةُ أينشتاين في النّسبيّة العامّة بين الزّمكان وحقولِ الجاذبيّة؛ فهُما كيانٌ يتمدّدُ ويتقلّصُ استجابةً للطّاقةِ والماّدة، وهذه الفكرةُ مستمرّةٌ في الفيزياء، ويُمكنُ تطبيقها على المقاييس الكبيرةِ الملموسةِ من قِبل البشر، حتّى مع الظّواهر الغريبةِ كالوقتِ المُتباطئِ والثّقوبِ السّوداء. ومن جهةٍ أُخرى، فالحقولُ الكموميّةُ هي الرّكيزةُ الأساسُ لما ندعوهُ المادّة، وأمَّا الإشعاعاتُ فتأتي من حقولٍ كموميّةٍ أُخرى ومن نوعٍ آخر؛ وقد تكون تلكَ الحقولُ إلكترونيّةً أو كواركيّةً أو فوتوناتٍ أو ما يُشابهُ ذلك، وتُقدّمُ الحقولُ الكموميّةُ مساواةً غير سهلةٍ بين المستمرّ(حيثُ نرصدُ وجودَ حقولٍ أساسيّةٍ مستمرّةٍ) والمُتقطّعِ (حيثُ نرصدُ كُتلاً صغيرةً من الطّاقةِ تتصادمُ بعضُها مع بعضٍ ومع ذرّاتِ الكشّافِ الذي نرصدُها عبرَه)، وكما يذكرُ روفيلي فإنّ واقعَ هذه الجزيئاتِ يُكشفُ عند تفاعلها مع محيطِها، ويكمنُ التّحدي الآن في دمجِ التّقطعيّة مع الزّمكان؛ أي الدّفعاتُ مع الاستمراريّة، وقد شغلَ هذا التّحدي الفيزيائيّينَ النّظريّين لأكثرِ من نصفِ قرن.

ويصفُ روفيلي الفكرةَ المُختبئةَ وراءَ الجاذبيّةِ الكموميّةِ الحلقيّةِ وصفاً احترافيّاً؛ فإذا أخذنا تقطعيّةَ الزّمكان بعينِ النظرِ فإنَّ مفهومَ الزّمانِ والمكانِ - كما نعلمُه - سوف يضمحلّ، وسنصلُ في النّهاية إلى شبكةٍ من الحلقاتِ تمثّلُ لنا (على المدى البعيدِ) الحقلَ الّذي ننشدُه؛ الزمكان. وعند تطبيقِ تقنيّاتِ الكمّ على المساحةِ والحجمِ في المكانِ يُمكننا أن نُظهرَ أنَّ هناكَ طيفاً محدوداً من المساحةِ والحجمِ، وهذا يعني أنّنا كمَّمنا المكانَ، تماماً كما كمَّمنا مستوياتِ الطّاقة في الذّرّة، والغريبُ في الأمرِ أنَّ روفيلي ذكرَ في مقدمةِ كتابهِ أنّ كتابَهُ هو الأوّلُ في هذا الموضوعِ مع أنّه يقترحُ كتابين آخرينِ في هذا الموضوعِ في نهاية كتابه، وكِلا الكتابَينِ جديرانِ بالقراءة: كتابُ "Once Before A Time: A Whole Story Of The Universe" لمارتن بوجوالد "Martin Bojowald" وكتابُ "Three Roads To Quantum Gravity" لكاتبهِ لي سمولِن "Lee Smolin".

وفكرة روفيلي عبقريّةٌ، وهو ينوي تطبيقَها في مواقفَ عديدةٍ، ولكنْ هناك نقطةٌ وحيدةٌ علينا الحذرُ عندها؛ وهي نقطةٌ يَعُدّها مناصرو نظريّةِ الأوتارِ ونظريّةِ الجاذبيّةِ الكموميّةِ الحلقيّة ابتداعيّةً وخاطئة، وتتلخّصُ تلك النّقطة في تكميمِ الجاذبيّةِ؛ أي تكميمُ الزّمكان اعتماداً على المُماثلة، ولكن لِمَ علينا تكميمُ الزّمكان؟ لأنّ الزّمكان حقل، وعلى كلّ الحقولِ أن تكون مكمّاة! ويمكننا في الواقعِ تخيّلَ نظريّةِ آينشتاين على أنّها وصفٌ جميلٌ لفيزياءِ الأجسامِ الكبيرةِ، حيثُ الكمّاتُ الصّغيرةُ والّتقطّعاتُ في المكانِ غير موجودة، وعلى الرغم من أنّ الزّمكانِ هو حقلٌ؛ لكنَّ ذلكَ الحقلَ مختلفٌ تماماً عن الحقولِ الّتي تصفُ المادّةَ ومغايرٌ لحقولِ الإشعاعاتِ. وبالمختصر؛ الجاذبيّةُ مُختلفة، واختزالُ الأفكارِ باستخدامِ المماثلة لن يكون مُقنعاً!

ولكن لِم نحاولُ في الأمرِ إذاً؟ يُمكنُ الإجابةُ عن هذا السّؤالِ بغضّ النّظرِ عن المُماثلة؛ فلنأخُذْ نظريّةَ الانفجارِ العظيم: عندما نعودُ بالزّمن إلى الوراءِ لنصلَ إلى النّقطةِ الّتي كان الكونُ فيها مجرّد نقطةٍ فإنّ الكونَ بحدّ ذاتهِ كانَ عند تلك النّقطةِ كياناً كموميّاً، وهذا الأمرُ ممكنٌ لكنّهُ مجرّدُ استقراء. وهناكَ إجابةٌ أخرى حصلت على اهتمامٍ أكبرَ خلالَ السّنينِ الماضيةِ؛ وهي أنَّه عند بداية الزّمان قفزَ الكونُ قفزةً لا يتعدّى بها الحاجزَ الكموميّ.

وتُقدّمُ كلتا النظريتَين (نظريّة الأوتار ونظريّةُ الجاذبيّةِ الكموميّةِ الحلقية) حلاً للقفزاتِ، ولكنّنا لسنا بحاجةٍ إلى النّظريتينِ لإيجادِ الحلّ المنشود، ويُبرِزُ سببٌ آخرُ أهميّةَ تكميةِ الجاذبيّةِ، وهو الثّقوبُ السّوداء؛ فالثّقوبُ السّوداءُ أجسامٌ غيرُ مستقرةٍ وفي خسارةٍ مستمرّةٍ للكتلة، فإذا تتبّعنا عمليّةَ خسارةِ الكتلةِ إلى نهايتها فماذا سيحدثُ عندها؟ وما الّذي سيبقى من الثّقبِ الأسودِ عندما يخسرُ كتلتهُ تماماً؟ نحن لا نعلمُ؛ لأنّنا ببساطةٍ لا نملكُ معلوماتٍ كافيةٍ عن الثّقوبِ السّوداء! فمنَ المُمكنِ ألّا يتبخّرَ الثّقبُ الأسودُ بالكاملِ، كأن يحصلَ شيءٌ غيرُ متوقّعٍ عندما يصلُ حجمُ الثّقبِ الأسودِ إلى قيمةٍ معيّنة (الأمرُ الّذي يُبرزُ إمكانيّة تكميةِ الجاذبيّة)؛ وكأَنْ يُطلِقَ الثّقبُ الأسودُ كمّاً هائلاً من الإشعاعاتِ قبلَ أن يصلَ إلى طولٍ معيّنٍ تُصبحُ عندَه التّأثيرات الكموميّةُ مُهمّةً للغايّة (طولُ بلانك).

أيّاً تكن أفكارُك وتوجّهاتك، سواءٌ كنتَ مناصراً أم معارضاً لنظريّةِ الأوتارِ أو لنظريّةِ الجاذبيّة الكموميّةِ الحلقيّة أو غيرها من النّظريات؛ فإنّ كتابَ روفيلي هو جوهرةٌ فريدةٌ وفيها مُتعةٌ لكلّ قارئٍ، فالكتاب مليءٌ بالتّصورات والمُماثلاتِ إضافةَ إلى كونه يشفي غليلاً للرّوحِ البشريّة.

هامش:

*الجاذبيّة الكموميّة "Quantum Gravity": هي النّظرية التي تحاولُ الدّمجَ بين ميكانيكِ الكمّ والنّسبيةِ العامّة.

معلومات الكتاب:

اسم الكتاب: الواقع ليس كما يبدو

الكاتب: كارلو روفيلي

عدد الصفحات: 272

دار النشر الأصلية: Penguin

تاريخ اول نشر للكتاب: 1 حزيران 2017 

الكتاب متوفر فقط باللغة الإنكليزية.

المصدر: 

هنا