البيولوجيا والتطوّر > بيولوجي

من أين تبدأ قصة السرطان؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

هل سألنا أنفُسَنا من قبلُ: كيف يتشكَّلُ السرطان؟ وكيفَ يمكن لِخلايانا الطبيعية "الوديعة" أن تصبحَ سرطانيّةً "شرّيرة"؟ دعونا نتعرّفُ في هذا المقال إلى رحلةِ الخلايا من الخير إلى الشر...

بدأتِ القصةُ عندما لاحظت مجموعةٌ بحثيةٌ أنَّ خلايا سرطان الثدي تحتوي عدداً أكبرَ من جزيئاتٍ lncRNA)) - أي الـ RNA الطويل غيرُ الحاملِ لشِيفرة بروتين RNA  long non-coding - مقارنةً مع خلايا الثدي السليمة؛ الأمرُ الذي يُعَدُّ علامةً محتملةً على أنَّ هذا الـ RNA له علاقةٌ بتطوُّرِ السرطان. وممّا يثيرُ الانتباهَ أيضاً أنَّ أكثرَ خلايا الثدي السرطانية كانت من نوعِ "خَلاَيا اللُّحْمَةِ المُتَوَسِّطَة" أما خلايا الثدي غيرِ المصاب يكونُ أغلبُها خلايا طِلائية.

ولكن ما هو الـ lncRNA؟!

ينتجُ (lncRNA) من تشذيبِ* RNA أوَّلي يحمل شِيفرةً لتصنيع بروتينٍ يُسمَّى PNUTS الذي يسهم بدوره في تطور الخلايا إلى خلايا سرطانية، وإنَّ (lncRNA) لا يُسهم في تصنيع أيِّ بروتين، ولكنَّه يعمل تماماً كإسفنجةٍ لِامتصاص MicroRNAs (الذي يرتبط بالـ RNA "الرسول" حاملِ شيفرةِ تصنيعِ بروتينٍ ما ويعملُ على تحلُّلِه) ولهُ وظيفةٌ في منعِ تحول الخلايا الظهارية إلى ما يُسمَّى خلايا اللحمة المتوسطة التي تُعدُّ إشارةً إلى نمو الورم وانتقاله، وأمَّا (lncRNA) فقد غابت عنّا أهميتُه وخطورتُه حتَّى أثار اهتمام فريقٍ بحثيٍّ عند ملاحظتهم أنَّ وجوده يرتبط بالسرطان، ليباشروا بكتابة قصةِ اكتشاف جديدة!

من هنا بدأ العلماءُ بالتساؤل: هل يُعدُّ وجود هذا الـ lncRNA سبباً لحدوث السرطان؟ وإن كان هذا صحيحاً، فما هي الآلية التي يدفَعُ بها إلى تطوُّر الأورام؟ وكيف تحولت الخلايا الطِلائية إلى خَلاَيا اللُّحْمَةِ المُتَوَسِّطَة؟ وكخطوة أولى للإجابة عن كل هذه التساؤلات؛ وجبَ على الباحثين أن يعثروا على طريقةٍ للتحكُّمِ في وجودِ الـ lncRNA زيادةً أو نقصاناً.

والآنَ؛ وقد أمسكنا بطرفِ الخيط... وعرفنا أنَّ الجاني هو lncRNA! دعونا نعرف ما الذي يجعل عدد جزيئاته يزيد أو ينقص؟

للإجابةِ عن هذا السؤال؛ فحصَ الباحثون مجموعةً من البروتينات النووية الريبوزية التي ترتبط بمواقعَ معينةٍ على الـ RNA الأولي فتتعطل عملية التشذيب، وفي حالة (جين PNUTS) تنبّأَتِ النماذجُ الحاسوبية بأنَّ بروتين الـ hnRNP E1 هو القادرُ على الارتباط بالـ RNA الأولي الخاصِّ به في مواقع لصقٍ بديلةٍ وهو المتحكّم بوقف هذه العملية، ومن ثمَّ عدمُ تكوينِ الـ lncRNA، وهكذا تحكَّم الباحثون في نقصان الـ lncRNA، ولكن ماذا عن الزيادة؟!

عَلم الباحثون من دراساتٍ سابقةٍ أنَّ خلايا الورم تُفرِزُ كمياتٍ كبيرةً من جُزيئات تُدعَى TGF-beta، وتعمل هذه الجزيئات على منع ارتباط الـ hnRNP E1 بالـ RNA الأولي؛ ما يسمحُ باستكمال عملية التشذيب مرةً أخرى وإعادة تكوين الـ lncRNA.

ولأنَّ الدراسة النظرية وحدَها لا تكفي فقد بدأ الباحثون بتجاربهم التي أثبتت أنه عند تفكُّكِ بروتين الـ hnRNP E1 في خطوطِ خلايا سرطان الرئة والثدي تصبح "مواقع الوصل المتبادل" مكشوفةً أكثر، وتكوّنُ هذه الخلايا عددَ lncRNA أكبر، وهو ما يحدث بالمثلِ كلّما تعرَّضت الخلايا لجزيئات TGF-beta أكثرَ مع مرور الوقت، فاستنتج الباحثون أنه وفي الظروف الطبيعية يرتبط الـ  hnRNP E1 ارتباطاً قويّاً بـ"مواقع الوصل المتبادل" للـ RNA؛ ما يسمحُ بتكوُّنِ بروتين PNUTS وعدم تكوُّنِ الـ lncRNA، ويحدثُ عكسُ هذا في الأورام.

وقد حانَ الوقتُ الآنَ للإجابة عن التساؤل الذي يليه: ما الآلية ُالتي تدفعُ بها هذه الجزيئات تطوُّرَ الأورام وكيف تحولت الخلايا الطلائية إلى خَلاَيا اللُّحْمَةِ المُتَوَسِّطَة؟

احتاج الباحثون هنا إلى نماذجَ حاسوبيةٍ إضافية، وتنبَّأت هذه النماذج بوجود سبعةِ أماكن محتمَلةٍ على هذا التتابع يمكن أن ترتبط بها جزيئات تُدعى الـ microRNA-205، ووظيفةُ هذا الارتباط هو تدمير البروتين المنظِّم لعملية النسخ المُسمَّى ZEB1، الأمرُ الذي يُشجّعُ الخلايا على الانتشار والانفصالِ بعضِها عن بعضٍ، ما يُعدُّ خطوةً رئيسةً لتحول الخلايا الطلائية إلى خَلاَيا اللُّحْمَةِ المُتَوَسِّطَة التي تُعَدُّ - في حدّ ذاتِها - سمةً رئيسةً من سماتِ نموِّ الأورام وانتشارها، ومن دون هذه "الأماكن السبعةِ" لن يرتبط الـ microRNA بالـ lncRNA، وهذا يساعدُ الخلايا على البقاءِ معاً، وعدم التطوُّرِ إلى خلايا ورمية.

فآلت القصّةُ في نهايتها إلى استنتاجٍ نهائيٍّ أنَّ الـ  lncRNA (الخاصَّ بجين PNUTS) يبتلعُ جزيئات microRNA-205، وهو الأمرُ الذي يجعلُ جزيئات ZEB1 حرّةً طليقةً تُشجّعُ بدورها الخلايا لتكوين الورم. ومن المتوقع أنَّ جزيئات lncRNA ليستِ الوحيدةَ المتورطةَ في هذه الآلية، ويعمل الباحثون -حاليّاً- من أجل العثور على المزيد من هذه الجزيئات التي تتّبعُ الآلية نفسَها بهدفِ تطويرِ علاجاتٍ مستقبليّةٍ.

ولكنَّ المهمَّ حقاً في هذهِ الدراسةِ أنَّها أظهرت كيف يمكنُ لجينٍ واحدٍ فقط أن ينتجَ: إمَّا RNA يحملُ شيفرةً لصنعِ بروتينٍ، وإمَّا RNA لا علاقةُ له بصنع البروتينات مطلقاً، ولذا ينبغي لنا الحذرُ من شيفرتِه السرطانية!

حاشية:

بعد أن ينسخ شريط الـDNA  الـ RNA يَنتجُ تتابعٌ يُسمَّى الـ RNA "غير الناضج" أو الأولي، وتُحدَّدُ بعضُ المناطقِ فيه وتُعدُّ مناطقَ زائدة ليس لها أيُّ دورٍ في تكوين البروتين؛ وتُعرَفُ بالإنترون (Introns)، وتُحدّدُ مناطقُ أُخرى ضروريةٌ ولا غنى عنها لِأداء المَهمَّةِ المطلوبة؛ وتُدعَى بالإكسون (Exons).

ولكن كيف يميّزُ الـ RNA هذا المناطقَ الضرورية من غير الضرورية أو ما أسميناه إنترونات وإكسونات؟

تُحدَّدُ هذه المناطق أثناءَ عمليةٍ تُسمَّى "تشذيب الـ RNA"؛ فقَبل أن يبدأ الـ RNA الأوَّلي بأداءِ مَهمَّتهِ يجبُ عليه أن يمرَّ بهذه العملية للتخلُّصِ من الإنترونات والحفاظ على الإكسونات، لِيُنتِجَ في النهايةِ تتابعاً جديداً من الـ RNA يُعرَفُ بالـ RNA"النهائي"، واللافتُ هنا أنَّ هذه العمليةَ يمكنها تحديدُ أماكنَ مختلفةٍ لكلٍّ من لإنترون والإكسون، وبهذا فمِن تتابعُ RNA أوَّليٍ واحدٍ يُمكِنُ إنتاجُ كثيرٍ من التتابعات النهائية المختلفة عن بعضها؛ والتي قد يحمل كلٌّ منها وظيفةً مختلفة، ويحملُ بعضُها شيفرةً لصنع البروتينات، وكثيرٌ منها يؤدّي وظائفَ مختلفةً يمكن أن تحدِّدَ سلوكَ الخلية ومصيرَها. إذاً لقد بدأنا بـ RNA أوَّليٍ وها نحن الآن مع RNA نهائي.

المصادر:

هنا

هنا

هنا