التاريخ وعلم الآثار > تحقيقات ووقائع تاريخية

الصداقة التي أرعبت إنكلترا

وفقاً للمؤرخين، فقدْ أظهرتْ عائلةُ الملكةِ فيكتوريا وموظَّفُوها تعصّباً عِرْقَيّاً واجتماعيّاً تزايدَ معَ الغيرةِ من تقرُّبِ الملكةِ إلى خادمِها عبدِالكريم؛ فقد منحتْه امتيازاتٍ عديدةٍ شملتْ مرافقتها في سفرها عبْر أوروبا، ودرجاتِ الشّرف، والمقاعدَ الأولى في دارِ الأوبرا، والولائمَ الملكية، وعربةَ نقلٍ خاصَّةٍ، وهدايا شخصيِّةٍ، وقد استضافتْ الملكةُ أفرادَ عائلةِ عبدِ الكريم، وساعدتْ والدَه في الحصولِ على معاشٍ، وحرَّضتْ الصّحافةَ المحليّة على الكتابةِ عنه، كما صرّحتْ الملكةُ فيكتوريا أيضاً بإصدارِ صورٍ لعبد الكريم لكي تكونَ المفتاح الذي يَكْشِفُ عمْقَ علاقاتِهما فيما بعد.

يعدُّ عبدُ الكريمِ الخادمَ الوحيدَ الذي استطاعَ الوصولَ إلى الدّائرةِ الخاصَّة بالمقرَّبين من الملكةِ بعدَ وفاةِ صديقِها الحميمِ ذِي الأصولِ الأسكتلندية جون براون، الذي ساعدَ على ملْءِ الفراغِ الشّخصيّ في حياةِ الملكةِ بعدَ وفاةِ زوجِها الحبيبِ ألبرت، وعلى الرُّغمِ من عدمِ رضا أفرادِ البلاطِ الملكيّ عن علاقةِ الملكةِ بصديقها الأسكتلندي جون براون؛ لكنَّ الأمرَ كانَ أسوأَ بالنسبةِ إلى الخادمِ عبدِ الكريم.

وحسب ما أوْردَ المؤرّخ كارولي إريكسون في كتابِه (صاحبة الجلالة الصغيرة): "إنَّ وجودَ هنديٍّ ذي بشرةٍ سمراءَ على مقربةٍ من مستوى خدمِ الملكةِ ذوي البشرةِ الفاتحة كان أمراً لا يُطاق، وَوجودُه على مائدة الطعامِ نفسها معهم ومشاركتهم تفاصيلَ حياتِهم اليوميَّة أيضاً كان يُنظر إليه على أنّه عارٌ".

كيف التقى الخادمُ عبد الكريم بالملكةِ فيكتوريا؟

حسب الصّحفيّةُ (شراباني باسو) التي كشفتْ هذه العلاقةَ بعدَ زيارتِها لمنزلِ الملكةِ الصَّيفيِّ في العام 2003م والتي كتبتْ عنها في كتابِها ( فيكتوريا وعبدول): القصّةُ الحقيقيَّةُ لخادمِ الملكةِ المقرَّبِ، فقد أظهرتْ الملكةُ اهتمامَها بالأراضي الهنديّة في عام 1887م؛ عامِ احتفالِها باليوبيل الذَّهبيّ لمرورِ خمسينَ عاماً على اعتلائِها عرشَ انكلترا، وطلبتْ إحضارَ طاقمٍ من الخدمِ الهنديين خِصيصاً لخدمةِ مائدةِ الاحتفالِ التي أُقيمتْ لرؤساءِ الدول، وهكذا اختيرَ عبدُالكريم، وهو ابنُ مساعدةٍ في إحدى المُستشفياتِ الهِنديّة، يعيشُ في مدينةٍ في شمالِ الهندِ تُدعى (أكرا)، ليكونَ أحدَ الخادِمَيْن الذين مُنِحَا للملكةِ فيكتوريا على أنَّهما "هديةٌ من الهندِ" في مناسبةِ مرورِ خمسينَ عاماً على توليها عرش إنكلترا، وانضمَّ عبدُ الكريمِ لخدمةِ الملكةِ بعدَ أربعِ سنواتٍ من وفاةِ صديقِها الحميمِ براون، وقد كتبتْ فيكتوريا معبرةً عن انطباعِها الأوَّل عن وسامةِ عبدِ الكريمِ أنّه "طويلٌ وذو ملامحَ جميلةٍ ورصينةٍ".

علامَ تعاهدا؟

بعدَ انتهاءِ الاحتفالِ باليوبيل الذّهبيّ بفترةٍ قصيرةٍ في بيتِ الملكةِ الصّيفيّ على جزيرةِ وايت، أبهرَ عبدُ الكريم الملكةَ عندما طهى طبقَ الدَّجاجِ بالكاري مع أرُزّ البيلاو، ووفقاً لـ أ.ن ويلسون كاتبةِ سيرةِ حياةِ الملكةِ، فقد أُعجبتْ الملكةُ فيكتوريا بهذا الطّبقِ كثيراً حتّى أدْرَجَتْه ضمنَ قائمةِ دورةِ وجباتِها النّظاميّة المُتَكَرِّرَة.

ومع ازديادِ اهتمامِ الملكةِ بالثّقافة الهندية، طلبتْ من عبدِ الكريم أن يعلِّمها اللغةَ الهندية (الأُردو) والتي عُرِفَتْ لاحقاً بالهندوستانية.

وقد كَتَبَتْ الملكةُ فيكتوريا في مذكراتها عن هذه الحادثة:

"أتعلَّم اللغةَ الهندوستانيّة لأتكلَّمَ معَ خدمِي"

"وهي ذاتُ منفعةٍ كبيرةٍ بالنّسبةِ إليّ، فيما يتعلَّقُ بكلٍّ من اللغةِ والشَّعبِ".

ولكي تتمكنَ الملكةُ من التّواصلِ الأفضلِ مع عبد الكريم فقد أصرَّتْ أيضاً أن يُضَاعِف عبدُ الكريمِ دروسَ اللغة الإنكليزية، حتّى أصبحَ الاثنان قادِرَيْن على التَّواصلِ معاً  مباشرةً وبالرّغمِ من أنَّ عبدَ الكريمِ استُؤْجِرَ ليكونَ خادماً، إلا أنَّ الملكةَ فيكتوريا سرعانَ ما رقّتْه ليكونَ "مونشي (لقب يطلقُ في الهندِ الإنكليزية على من أتقنَ اللغة الإنكليزية) والمحررَّ الخاصَّ بالملكة" وذلك مقابل مرتَّبٍ شهريِّ بقيمة 12 باوند، ثم رُقِّيَ لاحقاً ليصبحَ السَّكرتيرَ صاحبَ الوسامِ السّامي.

وأمّا ما رأتْه الملكةُ في عبدِ الكريم -بصرفِ النَّظرِ عن أصله- فبحسب ما ذكرتْه الصّحفيّةُ باسو لجريدةِ التلغراف: "لقد كانَ يكلِّمُها بصفتِها إنسانَةً لا بِصفتها ملكة، الجميعُ كانُوا يحافظونَ على وجودِ مسافةٍ تفصلِهم عنها، وحتى أبناؤها أيضاً، إلا أنَّ هذا الشّابَّ الهنديَّ جاءَ ببراءةٍ تحيطُ تصرفاته، فأخبرَها عن الهندِ، وتحدَّثَ معها عن عائلته، وبأنَّه كان دوماً مستعدّاً لسماعِ شكواها عن عائلتها."

وتعبّر الملكة عن مشاعرها تجاهه قائلةً:

"إنني مولعةٌ جدّاً به"

"إنه طيبٌ جدّاً و لطيفٌ ومتفهّم ... ويمثّلُ الرَّاحةَ الحقيقية لي."

لِأيّةِ درجةٍ وصلتْ علاقتُهما؟

وفقاً لِمَا ذكرتْه الصّحفيّةُ باسو للـ BBC في عام 2011م "في الرّسائلِ المُوجهةِ إليه خلالَ سنواتِ وصولِه إلى المملكة المتحدة ووفاةِ الملكة في العام 1901م، فقد وقَّعَتْ الملكةُ تلكَ الرَّسائلَ بـ (أمك المُحبّة) و(صديقتك المقربة)"، "وفي بعضِ الأحيان، كانتْ الملكةُ توقِّع رسائلها إليه بموجةٍ من القبلاتِ؛ وقد عُدَّ هذا الأمرُ غيرَ مألوفٍ مُطلَقاً في ذلكَ الوقتِ، لقد كانتْ تلك العلاقةُ علاقةً عاطفيّةً دونَ أدنى شكٍّ، علاقةً اعتُقِدَ أنّها تحملُ عدّةَ أوجهٍ مُختلفةٍ، بالإضافةِ لكونها علاقةَُ أمٍّ مع ابنها نشأتْ بينَ شابٍّ من أصلٍ هنديٍّ وسيدةٍ تجاوزتْ حينها السّتين من العمر".

وعلى الرّغم من أنّ فيكتوريا وعبد الكريم كانَا قد أمضيا ليلةً بمفردهما في كلاساتِ شيل، وهو كوخٌ ناءٍ في أسكتلندا تشارَكَتْه الملكةُ مع صديقِها جون براون، إلا أنّ باسو لا تعتقدُ بأنَّ كلاًّ من الملكةِ والشَّابِّ الهنديّ عبد الكريم معَ الفارقِ الكبيرِ بين عمريهما قد جمعتْهما علاقةٌ جسدِيّةٌ.

ومما كتبته باسو "عندما توفِّي الأميرُ ألبرت، أعلنتْ الملكةُ على الملأ بأنّه كان لها زوجاً، وصديقاً عزيزاً، والداً ووالدةً، وأنا أعتقدُ أنَّ عبدَ الكريم قد حقّقَ دوراً مماثلاً".

وعندما قرأَ أحفادُ عبدِ الكريمِ مذكّراتِ الملكة، اعتقدُوا أيضاً أنّ تلكَ العلاقةَ كانتْ علاقةً مثاليّةً، وعلاقةَ أمومةٍ على أفضلِ تقديرٍ.

وفي عام 2010م أخبرَ حفيدُ عبدِالكريم الأكبرُ صحيفةَ التلغرافِ بأنّ الملكةَ فيكتوريا وعبدَ الكريم "جمعتهما علاقةُ الأمِّ والابن، وقد أصبحتْ الملكةُ إندوفيل (شخصاً يولعُ بثقافةِ الهندِ ولغتها وشعبِها وطعامِها) بسبب حبّها الشّديدِ لعبدِ الكريم، إلا أنّ تعصَّبَ عائلةِ الملكةِ العرقيّ تسرَّبَ إلى كاملِ طاقمِ الخدمِ الخاصِّ بها".

ما هي الامتيازاتُ الخاصّة التي تمتَّعَ بها عبدُ الكريم؟

لقد مُنحَ عبدُ الكريمِ الإذنَ بحملِ السّيف وارتداءِ الأوسمةِ ضمنَ أرجاءِ البلاطِ الملكيّ، كما أُذنَ له أيضاً بجلبِ أفرادِ عائلته من الهند إلى إنكلترا، وكما ذكرتْ باسو "لقد كانَ والدُ عبدِ الكريم أوَّل من دخّنَ الشّيشةَ في قلعةِ ويندسور على الرّغم من نفورِ الملكةِ وكراهيَّتِها للتدخين".

 

هل تزوج عبد الكريم؟

تزوّجَ عبدُ الكريمِ وقد حَظِيَتْ زوجته بمعاملةٍ حسنةٍ من الملكةِ فيكتوريا، فبعدَ أن عبّرَ عبدُ الكريمِ عن رَغبته بالسَّفرِ إلى الهند ليكونَ مع زوجته، دعت الملكةُ فيكتوريا زوجةَ عبدِ الكريمِ لتكونَ معه في إنكلترا، ومنحتْهما عدَّةَ منازلَ في العقاراتِ الملكيّة الرئيسة في إنكلترا وأرضًا في الهند، وإضافةً إلى ذلك -حسب صحيفة التلغراف- فقد أسدَتْ الملكةُ -التي كان لديها تسعة أبناء من نسلها- النّصيحةََ لعبد الكريم وزوجته فيما يتعلَّقُ بالحمل: "يجبُ أن تكونَ (زوجة عبد الكريم) حذرةً في كلِّ شهرٍ فلا ترهق نفسها بشيءٍ".

كيف ودَّعا بعضَيهما؟

لقد طلبتْ فيكتوريا أن يكونَ عبدُ الكريم موجوداً ضمن قائمةِ المشيِّعين الرَّئِيْسِيْنَ، وهم مجموعةٌ من أصدقائها المقرَّبين وأفرادِ عائلتها، وذلك أثناءَ جنازتِها في قلعةِ ويندسور، وقد امتثلَ إدوارد ابن الملكة فيكتوريا لهذا الطّلبِ، فأَذِنَ لعبدِ الكريم بالمشاركةِ في مراسمِ الجنازة، كما سمحَ له بأن يكونَ آخرَ من يلقي النّظرَ على فيكتوريا قبلَ أن يُغلقَ نعشُها.

وبحسب مركز أبحاثِ السميثسونيان "أرسلَ إدوارد السّابع الحرّاسَ إلى الكوخِ الذي تشاركه عبد الكريم وزوجته، واستولى على جميعِ الرّسائل الموجَّهة من الملكة وحرقَها على الفور، ثمّ وجّه تعليماته إلى عبدالكريم بمغادرةِ إنكلترا والعودة إلى الهند دون إحداثِ جلبةٍ ودونَ وداعٍ".

 

كيف اكتُشِفَتْ قصته؟

بينما كانت الصّحفيّة شراباني باسو تتجوّلُ في منزلِ وايت الصّيفيّ الخاصّ بالملكة فيكتوريا على جزيرةِ فيكتوريا في العام 2003م، لاحظتْ وجودَ عدَّةِ رسوماتٍ ونصفَ تمثالٍ لخادمٍ هنديٍّ يُدعى عبد الكريم.

وقالت باسو للتلغراف في العام 2017م تعقبياً على ما رأت:

"لم تبدُ عليه هيئةُ الخَدَمِ….

"وقد رُسِمتْ لوحةٌ له يَظهرُ فيها كأحدِ نبلاءِ إنكلترا، فقد كانَ يمسكُ كتاباً ويلقي بنظرِه إلى الجانب، وشيءٌ ما في تعابير وجهه صدمني، وعندما تابعتْ مسيري، وجدتُ لوحةً أخرى له كانَ يبدو فيها أكثر لطافَةً، وقد كان ذلك كله أمراً غير مألوفٍ".

وبعدها مباشرةً، وبدافعِ الفضولِ أمضتْ باسو خمسَ سنواتٍ في العمل على اكتشافِ قصَّةِ فيكتوريا وعبدول، وبالتوازي مع التحقيقاتِ التي تضَّمنتْ إشراكَ أحدِ المؤرخين للذَّهابِ إلى قلعةِ ويندسور وطلبِ الإذنِ لإلقاء نظرةٍ على صحفِ فيكتوريا الهندوستانية، التي اتضحَ أنّها كانتْ وسيلةُ عبد الكريم لتعليمِ فيكتوريا اللغة الأوردية.

تابعتْ باسو أقوالَها:

"لم يطَّلِعْ أحدٌ على تلك الصحفِ حتى هذه اللحظة، وقد يعودُ ذلك إلى أنّ كلَّ كُتّابِ سيرةِ الملكةِ فيكتوريا كانوا أوروبيين، ولم يستطعْ أحدٌ منهم قراءةَ لغة الأوردو."

وحسب ما أوردته صحيفة التلغراف:

قرأتْ باسو ما يقربُ من 13 مجلداً من كتابةِ الملكةِ لمذكَّراتها تضمنتْ دروسَها الهندوستانية بالمورال، وزيارتها لعبدول عندما كانَ مريضاً، إضافةً لعدة زياراتٍ أدتها الملكة لشربِ الشّاي مع زوجةِ عبدول التي منحتْها الإذنَ للاستقرارِ في إنكلترا مع زوجها عبد الكريم.

لقد كان شغفُ الملكةِ فيكتوريا بالهند جليّاً واضحاً، ابتدءاً من رغبتِها اليائسةِ في تذوِّق فاكهةِ المانجو وانتهاءً بالنظر لعائلة عبد الكريم على أنها عائلةٌ نظيرةٌ لها،وقد أظهرتْ تلكَ القراءاتُ جانباً آخرَ من سيرةِ الملكةِ فيكتوريا مختلفاً تماماً عمّا كان قد عُرِفَ عنها قبل ذلك.

وبالصدفةِ المحضة، تواصل أحد أفراد عائلة عبد الكريم الذين مازالوا على قيدِ الحياةِ مع باسو وأرشدَها إلى أحدِ أفرادِ عائلةِ عبد الكريم الذي يحتفظُ بمذكَّراتِ عبد الكريم، والتي أدرجتْها ضمنَ كتابِها فيكتوريا وعبدول: القصّة الحقيقة لخادم الملكة المقرب، والتي استوحيت منها دراما من إخراج ستيفن فريرز وبطولة جودي دينش وعلي فضل.

وقد أوردَتْ إحدى مقالاتِ صحيفةِ التلغراف في وقت سابق:

هذا ما كتبَه عبدالكريم في مذكراته…..:

"هذه قصة حياتي في البلاط الملكيّ للملكة فيكتوريا بدءاً من اليوبيل الذهبي عام 1887م حتّى اليوبيل الماسيّ عام 1897م"

"لم أكن سوى غريبٍ على أرض غريبةٍ وسطَ أناسٍ غرباء، وبينَما أدوِّنُ مذكراتِ حياتي لا يسعني إلا أن أستذكر كلَّ الاحترام والخير الذي انهمرَ عليّ وعلى كل من حولي من فضلِ جلالة الملكة، وإنني أدعو الربّ العظيمَ بأن يُغدِقَ أكرمَ البركات وأوسعها على جلالة ملكتنا المبجلة."

المصادر:

1 - هنا

2 - هنا