الفيزياء والفلك > فلسفة الفيزياء والكونيات

هل ترتكزُ نظريّة الأوتار إلى معاييرَ علمية؟!

"هل نظريَّةُ الأوتارِ علمٌ؟"، ظَلَّ عُلماءُ الفيزياء وعُلماءُ الكونيَّاتِ يتناظرون في هذا السؤال طيلةَ العَقْد الماضي، ومؤخّراً بدأ المُجتمعُ العلمي يلجأُ إلى الفلاسفة طالباً مساعدتَهم.

ففي عام 2015م التقَت مجموعة من الفيزيائيِّين بمجموعةٍ من الفلاسفة في ورشةِ عمل1* غيرِ اعتيادية؛ تهدفُ إلى مواجهة الاتّهام المُوَجَّه إلى الفيزياء النظريّة بأنَّها أصبحَت مُنفصلةً عن العلوم المُرتكِزة إلى النتائج التجريبية، وقد غدَت سلامة المنهج العلميّ على المَحكّ، فضلاً عن اهتزازِ سُمعةِ العِلم بينَ الجمهور.

وقد جاءت ورشةُ العمل هذه ردّاً على مقالةٍ2* بعنوان: "المنهجُ العلميُّ: دافِعوا عن نزاهةِ العِلم  هنا" ،إذ سلَّطَ فيها الفلكيان George Ellis و Joseph Silk الضوءَ على ما وصفوه بِـ"التحوّلِ المُقلِق في الفيزياء النظريّة" ، وقد وردَ فيها: "بسببِ صعوبةِ تطبيقِ النظريَّاتِ الأساسيّة على الكونِ المنظور.."، فإنّ بعض العلماء يعتقدون" ..أنَّ النظريَّة إذا كانت تفسيريّةً وأنيقةً بقدرٍ كافٍ، فلا يلزم اختبارُها تجريبيًا ".

 

وتصدّرَتْ "قابليةُ الاختبار" سلسلةَ الموضوعاتِ التي نُوقِشت في الورشة، وتعني باختصارٍ أنَّ النظريّة العلميّةَ كَي تكونَ صالحةً يَجبُ أن تخضع لتجربةٍ تُحدِّدُ - مبدئياً - صحتَّها أو خطأَها، وهذا ما حدَّدَهُ الفيلسوفُ كارل بوبر  في ثلاثينيَّات القرن الماضي، ولكنَّ بعضَ الفيزيائيين النظريين - وفقًا للفلكيَّين سيلك وإليس - انحرفوا عن هذا المبدأ في مواضعَ عديدةٍ.

وقد استشهد الثُنائيُّ الفلكيُّ بنظريّة الأوتار كمثالٍ رئيس؛ وهي نظريَّةٌ تستبدلُ بالجُسيماتِ الأولّية أوتاراً لا مُتناهيةَ الصِّغر؛ بغرضِ التوفيق بين النظريَّةِ التي تصف الظَواهِر الواقعةِ على المستوى الكونيّ الكبير (النسبية العامة) والنظريةِ الّتي تصفُ الظواهِرَ الواقعةَ على المُستَوى الذَريّ المُتناهي الصِّغر (ميكانيكا الكم)، وهذه الأوتارُ هي  أصغرُ من أن تكشفَ عنها‏ تكنولوجيا اليوم، ولكنَّ البعضَ يُجادلُ بأنّ نظريّة الأوتار تستحقُّ المُتابعةَ سواءٌ كانتِ التجارُبُ قادرةً على قياس آثارها أم لم تكن! وذاكَ لمُجرَّدِ أنَّها تبدو الحلَّ "الصحيح" للعديدِ من المآزق الفيزيائيّة.

وقد ذكرَ سيلك وَإليس نظريةً أُخرى قد انحرفَت عن نهجِ كارل بوبر في نظرَيهما؛ ألا وهي نظريّةُ الأكوان المتعدِّدة، الّتي تعدُّ الانفجارَ العظيم قد أنجبَ العديد من الأكوان ‏الّتي قد تكونُ ‏مُختلفةً جذرياً عن كوننا.

ولكنَّ الفيزيائيَّ ديفيد جروس3* قد أوضَح - في الكلمة الافتتاحية لِوَرشة العمل هذه - الفرقَ بين النظريَّتَين، وعدَّ نظريَّةَ الأوتار قابِلةٌ للاختبار "من حيث المبدأ"‏، ‏وأنَّها علميّة تمامًا؛ لأنَّنا قد نتمكّن من اكتشاف الأوتار مع تطوّر التكنولوجيا، ولكنَّ مفهوماتٍ مثلَ "الأكوان المتعددة" هي أكثرُ ما يثير القلق؛ إذ إنَّه يَصعُب - من منظورنا - أن نُدرك الأكوان الأُخرى الّتي تفترضها نظرية الأكوان المتعددة، وأضاف قائلاً "إنَّه من الغريب القولُ أنَّ نظريَّةَ الأوتار ليست علماً بسببِ كونِها غيرَ قابلةٍ للاختبار الآن!".

وكان من ضمنِ الحضورِ الفيزيائيُّ كارلو روفيلي4* الذي وافق زميلَهُ بأنَّ مُجرَّدَ كونِ نظرية الأوتار غيرَ خاضعةٍ للاختبار الآن فهذا لا يُعني أنَّها لا تستحقُّ مجهودَ الفيزيائيِّين النظريِّين.

ولكنَّ الهدف الرئيسَ من كلام إليس وسيلك تمثّلَ في دعم المُلاحظات التي أدلى بها الفيلسوف ريتشارد داويد5* في كتابه (نظرية الأوتار والمنهج العلمي)6*، إذ كَتبَ أنَّ فيزيائييِّ الأوتار قد اتَّبعوا مبادئ ‏بازين الإحصائية، الَّتي تُقدِّرُ صحّةَ تنبؤٍ ما اعتمادًا على مدى معرفتِه المُسبَقة، ومِن ثَمَّ الحكمَ على صحّةِ هذا التقدير مع مزيدٍ من المعرفة المُكتسبَة. ولكنّ داويد لاحظَ أنَّ الفيزيائيِّين بدأوا بالاعتماد على العوامل النظريّة البحتة، مِثل الاتَّساق الداخليّ للنظريّة أو غيابِ البدائل ذات المصداقية؛ بُغيةَ تنقيح النظريات، عوضًا عن الاعتماد على بياناتٍ فعليّة.

 

مناقشة ديناميكية

في ورشة العمل؛ حدثَ جِدالٌ طويلٌ بين الفيزيائيَّين غروس - الذي اقترح أنَّ عدم وجود بدائلَ لنظرية الأوتار يجعلُ إمكانيَّة صحتها مُرجَّحَة-  وَ روفيلي - الذي عملَ سنواتٍ على نظرية بديلة تُسمَّى حلقة الكمّ الجاذبة - إذ يُعارضُ روفيلي بشدَّةٍ الافتراضَ بعدمِ وجودِ بدائلَ قابلةٍ للتطبيق. وفي الوقتِ نفسه، يرفض الفيلسوف داويد فكرةَ أن تدعمَ العواملُ النظريّةُ التنبُّؤاتِ والفرضيَّاتِ؛ إذ قال: "إنَّ ردِّي على البازينية (أنصار إحصاء بازين) هو أنَّ أيَّ أدلَّةٍ جديدة تدعم نظريّةً ما، لابُدَّ لها أن تكونَ أدلةً تجريبية".

وإضافةً إلى ذلك؛ فقد تَطرَّق آخرون لِمُشكلاتٍ أُخرى تتعلّقُ باعتمادِ مبادئِ إحصاء بازين الّتي تسعى إلى تعزيز نظرية الأوتار؛ فمثلاً؛ تعتقدُ الفيزيائيّة سابين هوسنفيلدر7* أنَّ شعبيّةَ هذه النظريّة ساهمت في تعزيز الانطباع بأنَّها هي الأفضل في الساحة، ولكن قد تكونُ نظريَّة الاوتار اكتسبت ‏هذه الشُهرة لأسبابٍ اجتماعية، إذ إنَّ الباحثين الشبابَ تهافَتوا إليها لأنَّ آفاقَ العمل في البحوث المتعلّقة بنظريّة الأوتار أفضلُ ممَّا هي عليه في مجالاتٍ أقلَّ شُهرةً على سبيل المثال.

وفضلاً عن ذلك؛ استندَ مؤرِّخُ العلم هيلج كراغ8* إلى الجانب التاريخيّ؛ مؤكِّدًا أنّ الجدلَ في ‏‏"مناهجَ جديدةٍ للعلم" هو جدلٌ قديم، ولكنَّ محاولةَ استبدالِ بعضِ ‏المعايير الأُخرى بقابليّةِ الاختبار التجريبيّة غالبًا ما تفشل، ولكنْ لحُسن الحظ فإنّ هذه المشكلةَ تقتصرُ على عدّة مواضيع فيزيائيّةٍ فقط، ‏وأضافَ قائلاً: "إنَّ نظريتَيّ الأوتارِ والأكوانِ المتعددةِ ليسَتا سوى جُزءٍ صغيرٍ جدًا ممَّا يبحثهُ ‏الفيزيائيون".

وقد أراحَ حديثُ كراغ الفيزيائيَّ روفيلي، الَّذي أكَّد على الحاجةِ إلى التمييز صراحةً بين ‏النظريات ‏العلميَّةِ الّتي  بُنيَت على أسُسٍ تجريبيّة وتلك المبنيّةِ على التفكيرِ أو التأمل، وقال: "إنَّه ‏من غير المعقول أن يوُقِفُك الناسُ في الشارع ليخبروكَ  أنّ العالم مصنوع من الأوتار، وأنَّ هُناك ‏عوالمَ ‏موازية"‏‏‎ ‎

وفي نهاية ورشةِ العمل؛ لم يتضِّحْ أنَّ الفيزيائيِّين قد اقتربوا من أيِّ اتفاقٍ، إذ صرّحَ داويد - الذي شارك في تنظيم هذا الحدث مع سيلك وإليس وغيرهم - أنه لم يكُن يتوقَّعُ من االحضور تغييرَ مواقفِهم فورًا، ولكنَّهُ يأمَلُ أن يُثمِرَ التركيز على أسُسِ التفكير المنطقيّ عن  تقارُبٍ طفيفٍ في وجهاتِ النّظر.     

                 

1*الورشة من 7 إلى 9 ديسمبر 2015 (ميونخ – ألمانيا/ جامعة لودفيج ماكسيمسيليان)‏

2*نُشِرت المقالة لعالِم الكونيات: جورج إليس (جنوب افريقيا/ جامعة كيب تاون) وعالِم الفلك: جوزيف سيلك (ميرلاند/ جامعة جونز هوكنز)، بتاريخ 2014

3*فيزيائي نظري (جامعة كاليفورنيا/ سانتا باربرا). شارك بجائزة نوبل في عام 2004 لعمله على القوة النووية القوية -التي يتم اختبارها جيداً في التجارب-، كما شارَك أيضًا بمُساهمات مُهمة في نظرية الأوتار.

4*فيزيائي نظري (جامعة إيكس مرسيليا/ فرنسا)‏

‏5*فيلسوف (جامعة لودفيغ ماكسيميليان)‏

‏6*مطبعة جامعة كامبردج، 2013‏

7*فيزيائية (معهد الشمال للنظرية الفيزياء/ ستوكهولم)

8* (جامعة آرهوس/ الدنمارك)

المصادر:

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا

هنا