الطبيعة والعلوم البيئية > علم البيئة

مدينة عكا: حالة دراسة لأثر التمدن على البيئات الساحلية المتوسطية

يسود اعتقاد اليوم أن المناطق الحضرية القديمة قد تطورت بطريقة مستدامة ضمن الإمكانيات المحلية للموارد الطبيعية وضمن قدرة النظام البيئي على الاستجابة، لكن معرفتنا الضئيلة حول كيفية نشوء الحياة الحضرية (التمدن) هو سبب ذلك الاعتقاد. يحاول البحث التالي إثبات أن التنمية الحضرية ما هي إلا تحول سريع للنظم البيئية الموجودة مسبقاً إلى بيئة حضرية محكومة بقواعدها الخاصة.

عني البحث بدراسة عكا /فلسطين المحتلة/ لكونها من أقدم المدن المقطونة في التاريخ ولتوافر سجلات ومعلومات عنها تعود لأكثر من 6000 عام.

دعونا بدايةً نتفق على أن التحضر (استيطان المدن) هو أحد الاتجاهات الديموغرافية السائدة في عصرنا اليوم حيث يرجح أن يتركز أكثر من 50% من البشر في المدن في غضون 30 عاماً نتيجة الهجرة. هذا النمو الحضري يعد واحداً من أكثر الأشكال تطرفاً من الإجهاد البيئي وتغيير الأرض.

السؤال الذي بدأ يكتسب أهمية ملحوظة في الآونة الأخيرة هو: هل كان ظهور المدن قبل 6000 سنة وما تلاه من نمو حضري في غرب آسيا قد أثر بعمق في البيئة الطبيعية ودفعها نحو تغيرات غير قابلة للعكس ؟؟ وهل استندت عملية التنمية الاقتصادية على رأس المال البيئي المتوفر، أم أن التغيرات المرافقة للتحضر عملت كمحفز للتدهور البيئي العميق ؟؟

لمعرفة الجواب كان لا بد من توفر معرفة وافية بعلاقة المجتمعات الطبيعية والأنشطة الإنسانية ضمن وحول المدن الناشئة.

أدى التطور الحضري لإنتاج ظواهر محلية ناتجة عن تفاعل القوى الحيوية الطبيعية من جهة والشؤون والمصالح الاقتصادية والاجتماعية للإنسان من جهة أخرى. هذا التفاعل كان يحكم التغيرات البيئية الحاصلة على المدى الطويل، ويستجيب لها في نفس الوقت. عكا أحد المدن الساحلية الفلسطينية التي تشكل نموذجاً للمناطق الشاطئية الحيوية والمفتوحة، وتعتبر موقعاً للتراث العالمي حسب تصنيف اليونيسكو وواحدة من أقدم الأماكن المأهولة وصلة استراتيجية لبلاد الشام.

يمكن بوضوح ملاحظة الأثر البيئي لطفرة التمدن ضمن وخارج عكا في أحد المواقع المتموضعة على تل يبعد مسافة قصيرة من عكا الجديدة حيث تتوافر سجلات عن ديناميكيات النظام البيئي في هذا الموقع منذ أكثر من 6000 عام.

من سمات عكا البارزة أن المنطقة تحولت بسرعة من مناظر طبيعية تسودها الغابات الكثيفة إلى سهوب من الشجيرات وذلك بين بين 2050 ق.م و 1350 ق.م. الملفت أن كميات كبيرة من الأمطار سجلت منذ 2050 ق.م في شرق المتوسط، بالإضافة لأمطار غزيرة على البحر الميت وطبريا فضلاً عن زيادة فيضان النيل والمرحلة الرطبة على السواحل السورية. إذاً فالظروف المناخية الإقليمية لا ترشح المناخ كسبب رئيسي في هذا التحول حيث لم يلاحظ تناقص في هطول الأمطار بالتزامن مع هذه الفترة (تغير الغابات لشجيرات).

الحدث الوحيد في الفترة من 2050 - 1350 ق.م والذي قد يعتبر قادرا على التحكم بتطور النظم البيئية لعكا هو التغيرات الشكلية الساحلية الناتجة عن تغيرات منسوب مستوى البحر.

هذا التبدل في الغابات المتوسطية البكر تلا على الفور قيام أقرب الهياكل الحضرية المؤرخة في العصر البرونزي الأوسط 2050 ق.م.

بعد ذلك، تطورت المدينة سريعاً بإنشاء الأسوار والمباني والمناطق الصناعية، كما كان الميناء المتصل مع النظام النهري لنهر النعمان محط تركيز الاقتصاد والتجارة، والمحرك الأساسي وراء النمو السكاني المدني.

وبالطبع فإن التركز المكاني للأنشطة الزراعية والصناعية والتجارية أدى لزيادة الطلب على النظم البيئية المحلية، والتعدي على الحياة الطبيعية ضمن وحول التل.

في خضم هذا كله ظهرت نظم بيئية حضرية جديدة كبقع صغيرة داخل مصفوفة من التوسع العمراني والزراعي. ساد هذا الخلل البيئي الناجم عن الإنسان خلال 2050 ق.م في المراحل اللاحقة؛ حيث أن النباتات الساحلية أصبحت تهيمن عليها الأنواع الخشبية الجافة المتأقلمة مع الظروف الحضرية بالارتباط مع سهوب الشجيرات التي أصبحت سائدة خلال فترتين هما 280 م - 890 م و 1520-1850 م.

دعونا نستعرض تاريخ عكا باختصار ضمن الثلاث مراحل التالية:

المرحلة 1:

خلال الألفية الأولى لاحتلال الإنسان، حصل انخفاض حاد في الانتاجية الزراعية (1300-1250 ق.م) ارتبط بضعف الاقتصاد وانخفاض المواقع الملائمة في عكا. كما ضربت موجة جفاف في 1250 ق.م أثرت على معظم مناطق شرق المتوسط والمناطق المجاورة. مما زاد في الأمر سوءاً الأحداث التالية:

- التأثير المتراكم لانخفاض معدلات الأمطار الساحلية في نهاية العصر البرونزي؛

- دخول اليابسة إلى البحر بسبب الارتفاع البطيء نسبياً في منسوب البحر؛

- استمرار وصول رواسب النيل الرملية المترسبة في خليج حيفا والطمي النهري القادم في مصب نهر النعمان.

كل ذلك ولد مناطق ساحلية أكثر جفافاً وطور لاحقاً السهوب الجافة في 1210 ق.م.

المرحلة 2:

انتهت موجة جفاف العام 1250 ق.م محلياً في الفترة من 950 - 850 ق.م إلا أن عودة ظهور أنماط سكنية وشبكات تجارة واسعة النطاق (بعد 700 ق.م) خلال الفترات الهلنستية الفارسية والفينيقية المبكرة أثرت في البيئة بشكل واضح، أي أن تأثير الإنسان عاد للصدارة.

المرحلة 3:

حصل تناقص حاد في الإنتاجية الزراعية منذ 1300 م في نهاية العهد الصليبي وبداية العثماني. فبعد سقوط الصليبيين كانت المساحات متروكة بدون حراثة وخاضعة لظروف التمدن لفترة طويلة.

استبدلت عكا بصفد كمركز إداري للمماليك، حيث وصفت عكا من قبل الحجاج والتجار الذين زاروها في القرن السادس والسابع عشر كمدينة أشباح مهجورة، مع بعض الهياكل من الفترة الصليبية التي بقيت قائمة.

بغض النظر عن السبب وراء الاضمحلال الذي أصاب عكا منذ 1300م فإن عدم وجود مرونة بالنظم البيئية الساحلية بعد التخلي عن البلدة اللاحق لـ 3500 سنة من استنزاف البشر أدى إلى تعرية بيئية تميزت بعدم قدرة التجمعات الغابية على التجدد.

جدير بالذكر أن الظروف الجافة للموجة الجليدية العابرة التي سجلت بعد 1450م في بلاد الشام خلال الحكم العثماني لا يمكن أن تكون عامل التأثير الرئيس وراء انتشار السهوب الشجيرية المفتوحة التي سجلت بعد سقوط الصليبيين.

الخلاصة:

- البشر عنصر أساسي في ديناميكيات النظام البيئي خلال عمليات التحضر التي بدأت منذ2050 ق.م.

- التحضر المبكر غيـّـر بشكل تدريجي العمليات البيئية التي تحكم البيئة الساحلية قبل الاستيطان.

- زاد الغنى النباتي في البيئات الحضرية بسبب تشكل خليط غير متجانس من المواطن المرقعة، وبسبب التعايش بين البشر والأنواع الطبيعية المفضلة لهم.

- يمكن للعملية الحضرية أن تولد بسرعة أو أن تضخم الخلل الحيوي مما قد يؤدي لزيادة التنوع البيولوجي لكنه يخفض التفرد ومرونة النظم البيئية.

- النمو السكاني المتسارع منذ 2050 ق.م والتنمية غير المستدامة التي تولدت نتيجة المطالب الاقتصادية والاجتماعية زادت بشكل كبير احتياجات المياه.

- الطلب المتزايد على المياه وتغيرات استخدام الأراضي قللت قدرة الخزانات الطبيعية على التخفيف من تأثير التغيرات البيئية.

- أدى ذلك إلى رفع معدلات الحرارة من خلال آليتين: التناقص الحاصل بالمياه الطبيعية أو الأراضي المعشوشبة قلل فقدان الحرارة الناتج عن التبريد التبخري مؤدياً إلى زيادة الحرارة المحلية، بالإضافة إلى زيادة امتصاص الإشعاع الشمسي في المباني في المناطق الحضرية والتي لها قدرات حرارية أعلى من البيئات الطبيعية.

- الكثافة السكانية ضمن وحول عكا غيرت بعمق ديناميكيات البيئة والبنى المجتمعية الطبيعية، وهذا يشكك في الاعتقاد السائد منذ فترة طويلة عن أن التنمية الحضرية المبكرة تمت بشكل مستدام.

- الآليات التي تؤدي لتدهور النظم البيئية أو الإفراط في استغلالها اليوم كانت موجودة بالفعل حتى لو اختلفت التقنيات الزراعية.

- التاريخ الحضري على مدى 4000 عام لعكا يوضح نمو البيئة الحضرية المتكيفة التي تحكمها قواعد بيئية خاصة بها مستندة إلى فقدان مجموعات معينة من التجمعات والأنواع، وتجزؤ النظم الإيكولوجية الطبيعية وتخفيض حصص المياه.

- تدهور الخدمات البيئية وفقدان التنوع البيولوجي ذات الأهمية الاقتصادية كان ثمناً تم دفعه لتتمكن الحضارة الأولى من ضمان التنمية الاقتصادية والاجتماعية وتوسيع شبكات تجارتها.

أخيراً: يبدو أن الاستدامة من البداية كانت هدفاً تخيلياً منذ أصبحت الهيئة الطبيعية تتطور باستمرار وفقاً للاحتياجات الاقتصادية والاجتماعية لمجتمع معين في لحظة معينة.

المصدر:

هنا