الفنون البصرية > أيقونات فنية خالدة

مشهد الحساب الأخير بريشة الفنان مايكل أنجيلو

هناك على جدارِ مذبحِ كنيسةِ السيستين في الفاتيكان- روما؛ تقبعُ جداريةُ المحاكمةِ الأخيرةِ التي أنجزها مايكل آنجلو بين عامي 1534 و 1541 متضمنةً ما يزيد على 300 شخصيةٍ بوضعياتٍ مختلفةٍ لتملأ جدارَ الكنيسةِ حتى الحواف.

تتجاوزُ الجداريةُ المميَّزةُ حدودَ مجالَ رؤيةِ الناظرِ؛ خلافاً لما تعوَّدنا عليه في باقي المشاهدِ الموزّعةِ على جدرانِ الكنائس وسقوفِها، وهي مقسَّمةٌ إلى طبقاتٍ وأرباعٍ ومجموعاتٍ فرعيةٍ على الرَّغم من كثافة الشخصيات المُتضمَّنة فيها.

يحتلُّ المسيحُ بشخصيَّتِهِ القويَّةِ وعضلاته الواضحة مركزَ اللوحة، ويشيرُ بيده ليفصلَ بين الصالحين على يمينه والمخطئين على يساره، وكذلك تظهرُ مريمُ العذراء تحت ذراعِ المسيحِ؛ راضيةً بحُكمِه؛ إذ تجنَّبَ آنجلو رسمَ الذراعَين المفتوحتَين تضرُّعاً؛ ما يؤذِنُ بانتهاءِ وقتِ الشفاعة للبشرية.

يتوزعُ عددٌ من الملائكة غير المجنَّحين تحت المسيح بخدودهم المنتفخة جرَّاء عزف البوق في دعوةٍ للموتى للارتقاء، بينما يحمل ملاكان منهم الكتابَ الذي يحوي أعمالَ القيامة.

وعلى الجانب الأيسر السفليِّ من اللوحة، يُبعَثُ الموتى من قبورِهم، وتتساقطُ أكفانُهم ويرتفِعُ بعضُهم مدفوعاً بقوةٍ خفية دونما أيِّ عناء؛ بينما يحتاج آخرون لمساعدة الملائكة الضخمة!

وعلى الجانب الأيمن من اللوحة؛ تجرُّ الشياطينُ المُخطِئينَ إلى الجحيم، وتضربُ الملائكةُ مَنْ يحاول الهرب منهم؛ إذ يمثلُ كلُّ واحدٍ منهم خطيئةً محددة.

وفي الزاوية اليمنى السفلى من الجدار؛ نرى شارون المَراكبي - ناقلُ النفوس في العالم السفليِّ بحسبِ الميثولوجيا الإغريقية - وهو يدفع المخطئين على شواطئ الجحيم، بينما يقف مينوس في أقصى الزاوية اليمنى السفلية على حافة الجحيم، لِيحكمَ على القادمين الجُدد ويحدّد عقابهم الأبديّ.

كذلك؛ يُطوِّق المؤمنون والقديسون المسيحَ فنرى يوحنا المعمدان (النبيَّ الأخير)، ونرى بطرس أيضاً، الذي يعيد مفاتيح الملكوت السماوي كتذكيرٍ للبابا بأنه نائبٌ للمسيح فترةً مؤقتةً وحسبُ.

وقد تعرَّضَتْ أعمالُ مايكل آنجلو للانتقاد بسبب كَسرِهِ للتصويرات الشائعة آنذاك؛ مثل: تصوير المسيح دون لحية ورسمِ الملائكة، وبسبب ظهور بعض الشخصياتِ الأسطوريةِ في أعماله مثل: شارون و مينوس، وعرضِهِ غير السليم للأرداف.

وقد اتُّهِمَ آنجلو بالتباهي بقدراته الإبداعية على حساب اهتمامه بتصوير الحقيقة المقدَّسة، ولكنّه من جهةٍ أخرى قد نال المديحَ والاستحسانَ ولا سيَّما من الكنيسة؛ إذ أثنى كثيرون على عمله هذا وعدُّوه تحفةً فنيَّةً رائعةً، لإِبرازِه قدرةَ مايكل آنجلو التصويرية المتميزة في تمثيل العضلات القوية.

كان آنجلو واثقاً من تفهُّم النخبةِ المثقفةِ لأعماله وابتكاراته، فاستوحى ملامحَ وجه المسيح من منحوتة أبولو بيلفيدير، واستلهمَ كثيراً من جحيم دانتي مُضيفاً شارون ومينوس.

لم يكتفِ الفنانُ بتصوير الشخصيات الدينية والأسطورية وحسب، بل دمجَ نفسَه في اللوحة؛ إذ يُمسِك القديس بارثولوميو بقطعةِ جلدٍ مسلوخٍ تحمل وجه آنجلو عليها، مستحضراً ظروف استشهاد القديس نفسِه وسلخَ أبولو لِمرسياس بعد تحدّي الأخير له كعقابٍ له على غطرسته، وقد أشار آنجلو لِمرسياس في لوحته للتشابه بينه وبين الأخير؛ إذ أطلق معاصرو آنجلو عليه لقبَ "مايكل آنجلو الإلهيّ" بسببِ قدرته على منافسة الإله في إعطاء الجسم البشري شكلَه المثالي، ومن الجدير بالذكر أن آنجلو - وعلى عكس مرسياس - أعربَ في كثيرٍ من الأحيان عن أسفِه للتركيز في فترة شبابه على جمال الفنِّ بدلاً من خلاصَ روحه، وقد اعترف بخطيئتِه عبرَ هذا العمل الذي أنجزه في منتصف الستين من عمره، آملاً أن المسيح - على عكس أبولو - سيغمره برحمتِه ويعفو عنه.

وبعدَ وفاة الفنان الإيطاليِّ مايكل آنجلو، أُعطيت مَهمَّةُ تغطيةِ الأرداف العاريةِ بِقطعٍ من القماش لدانيال دافولتيرا، كوسيلةٍ لحلِّ الصراع المُحتدِم حول التعريّ في الأعمال الدينيّة.

وعلى الرَّغم من الانتقاد اللاذع الذي تعرَّضت له جدارية المحاكمة الأخيرة من قبل جمهورٍ محدود في القرن السادس عشر، فإنَّها تُعَدُّ الآن ودون أدنى شكٍّ رائعةً من روائع الفنّ البشري، ومقصداً يومياً للسياح من كلِّ أنحاء العالم.   

المصادر:

هنا

هنا