الطب > متلازمات طبية

سلسلة التوحُّد - التوحُّد وتأثيرُه على العائلة

 

 ممّا لا شكَّ فيه أنَّ إصابةَ أحد أفراد العائلة بالتوحُّدِ ستؤثّر حتماً على كلِّ أفرادها، فتلك المفاجأةُ غيرُ المتوقَّعة ستحوِّلُ اهتمامَ الأهل الكاملَ نحو ابنِهم المصاب وتُبدِّلُ أولويّاتِهم؛ إذ لا شيءَ أهمَّ من مساعدة طفلهم الآن.

وهذا سيوَتّرُ العلاقاتِ داخل العائلة وبينها وبين محيطها  في العمل أو المدرسة أو على المستوى الشخصي، ناهيكَ عن المسؤوليّاتِ المالية الجديدة والضغط التي تولِّدُه، فعلى الأهل الآن أن يبذلوا قُصارى جهدهم لتأمين علاجاتِ طفلهم المناسبة، وهذه العواملُ مجتمعةً لا بدَّ أن تخلق جوّاً من التوتُّر يحيطُ بالأطفال الآخرين في العائلة وبالأهل أيضاً.

- التأثير على الأهل :

يُعَدُّ التوتُّرُ العنوانَ الرئيسَ للمرحلة الجديدة التي توشك العائلة على دخولها مع ابنهم المصاب؛ التوتُّرُ النفسيُّ الذي يرافق الاجتماعاتِ العائليةَ وتحضيرَ الوجبات والوظائفَ المدرسية والتسوُّقَ والاستحمامَ وكلَّ تلك النشاطاتِ التي قد تُربِكُ الطفلَ المُصابَ والأسرة على نحو مستمرٍّ.

وقد لا يعبّرُ الطفلُ المصاب عن احتياجاته الأساسية بالطريقة التي نتوقَّعُها، ولهذا يبقى على الأهل أن يخمّنوا ماذا يحتاج الطفل الآن؛ هل يبكي لأنَّه عطشان؟ أم جائع؟ أم لأنّه مريض؟ وحين لا يستطيعون تحديد احتياجاته فإنَّ الإحباطَ سوف يصيب الأهل والطفل على حد سواء، وقد يُترجَمُ إحباطُ الطفل بسلوكٍ عدوانيٍّ تجاه الآخرين أو تجاه نفسه  مُهدِّداً سلامتَه وسلامةَ مُحيطِه، وسيشكّل هذا السلوك - الذي يتَّبُعه الطفلُ إن لم ينَلْ ما يبتغيه - مصدراً للقلق عند الأهل  كونه يعيق تعلمَّه وحياتَه الاجتماعية، إضافةً إلى التوتُّر الّي تولُّده الإعاقات الممكنة لدى الطفل في مهاراتِه الاجتماعية كاللعب مع الأطفال الآخرين مثلاً.

وكذلك تجدُ العديد من العائلات صعوبةً في إقناع أطفالهم بالخلود إلى النوم ليلاً، أو في أن ينوُّعوا أطعمتهم أكثرَ، وترهق هذه التجارُبُ الأهلَ جسدياً وتستنزِف طاقاتهم الداخليّة، وتشكِّلُ المواعيدُ المجدوَلةُ تحدّياً لهم  كموعد الغداء مثلاً؛ إذ لا يمكن للطفل المصاب بالتوحد أن يجلُسَ باستقرارٍ لفتراتٍ طويلة.

وكثيراً ما تُخفِقُ الرحلاتُ العائليةُ أيضاً، فعلى أحدٍ ما أن يبقى ويعتني بالطفل في ظلِّ غيابِ أصحابِ الخبرةِ في التعامل مع الطفل المصاب بالتوحد.

وإنَّ اصطحابَ شخص مُصابٍ خارجَ المنزل في رحلة أو أمسية أو غيرها قد يُمثّلُ مشكلةً أيضاً! فربَّما يُحدِّقُ بعضُهم أو يعلِّقُ على نشاطات الالطفل المريض، أو يفشلُ بعضهم في فهم سلوكه؛ إذ يميلُ الأفرادُ المصابون بالتوحُّد لأخذِ الطَّعامِ من أطباق الآخرين مثلاً، وهذه المواقفُ المحتملَةُ الحدوث قد تُقلِقُ الأهلَ من فكرة اصطحابِ أطفالهم المصابين إلى منازل الأصدقاء أو الأقارب، ونتيجةً لذلك تُصبِحُ الأعيادُ والعُطَلُ أوقاتاً صعبةً لهذه العوائل؛ وقد يشعرون أنَّهم غيرُ قادرين على التواصل مع الآخرين ورؤيتِهم  ممَّا يجعلهم يختبرون نوعاً من مشاعر العزلة عن أصدقائهم وأقاربهم ومجتمعهم.

- التأثير على بقية أطفال العائلة :

تترافقُ تربيةُ طفلٍ مُصابٍ بالتوحد مع تأثيراتٍ تطالُ الأطفال والأهل، وغالباً لا يجدُ الأهلُ وقتا كافياً لقضائِه مع بقيّة أطفالهم بسبب الوقتِ الذي يُمنَحُ في لطفلِهم المصاب لمحاولةِ فهمه أو تلبيةِ رغباتِه .

ويشعرُ العديد من الآباء والأمهات أنّهم يصارعون دائماً في محالاوتهم تلبيةَ احتياجاتِ العائلة كلِّها؛ إذ يبذلون قُصارى جهدهم في مساعدة طفلهم المصاب، ومع أنَّ حياتَهم الخاصة كأفرادٍ قد توضع (على قائمةِ الانتظار) ومع أنَّ الزوجَين قد يشتركان في فهم الحاجة إلى التضحية في سبيل تأمينِ حياة مثاليةٍ لابنهم المصاب؛ يرى هؤلاء أنَّ بعضَ الأهالي مستعدُّون لتقديم المستوى ذاتِه من الاهتمام لبقية أطفالِ العائلة، ويولّدُ هذا الأمرُ بالطبعِ نوعاً من الصراع الداخلي لديهم في محاولتهم تأمينَ توازنٍ بين اهتمامهم بالطفل المصاب واهتمامهم بالأطفال الآخرين .

حسناً إذاً، كيف يمكن للأهل أن يوضحوا فكرة الإصابة بالتوحد لبقية أطفالهم؟ وكيف يمكنهم أن يدفعوا أبناءهم إلى مساعدة أخيهم أو أختهم المصابة بالتوحد؟

تشير الدراساتُ إلى أنَّ أخوة وأخوات الأفراد المصابين بالتوحد يميلون إلى التأقلم جيّداً مع إصابة أخيهم باضطراب طيف التوحد، ولكنَّهم - على كلِّ حالٍ - يواجهون بعضَ المعوقاتِ في التعامل معه، وكذلك تقعُ بعضُ المسؤولياتِ الخاصة الإضافية على عاتقهم، وإنَّ تعليَمهم كيفية القيام بها سيسهّلُ طفولتهم وسيجعل منهم بالتأكيد أشخاصاً بالغينَ أكفياءَ وأقدَرَ على التعامل مع القضايا المُشابهة.

ويمثّل الأهلُ العنصرَ الأهمَّ في هذه العملية، فتلك الخبرات التي يقدمونها لأطفالهم ستكون عوناً جيداً لهم في عمرهم هذا وفي المستقبل.

وقد يمرُّ الأطفالُ بتجارُبَ مُختلفةٍ تفضي إلى توترهم أيضاً، وهنا بعضُها:

- الشعور بالخِزي بين الأقران، وينجمُ هذا عن شعورهم بالغيرة تجاه الطفل المُصابِ بسبب الوقت الممنوح له من قِبَل الأهل.

- حيرة الطفل وارتباكِه أحياناً عند شعوره بانعدام الحيلةِ في التواصلِ مع أخيه المصاب.

- حين يكون الطفلُ هدفاً للسلوكِ العدوانيّ من أخيه المصاب.

- حين يحاولُ الطفل أن يعوِّضَ عن عجز أخيه.

- تأثُّرُ الطفلِ بالمشاعر التي يختبرها أهله أحياناً، كالحزنِ أو القلق.

- القلقُ الذي يشعر به الطفل حين يفكِّرُ في دوره المستقبلي حيالَ تأمين الرعاية المناسبة لأخيه.

إذاً كيف نشرح ماذا يعني التوحد لأطفالنا ؟

إنَّ الشيءَ الأكيدَ هنا هو ضرورةُ معرفة الأطفال بمعنى التوحُّدِ بما يناسبُ وعيَهم، والقاعدة الذهبية لذلك: (أخبِرْهُم باكراً وأخبرْهُم مراراً وتكراراً)، إذ يحتاجونَ منذ طفولتهم الباكرة إلى معلوماتٍ تساعدُهم في فهم سلوكيّات أخيهم المرتبطةِ بهم مباشرةً، وكمثال على ذلك؛ يمكننا أن نشرحَ التوحُّد لطفل في مرحلة الحضانة بعبارة بسيطة مثل: "هاني لا يعلَمُ كيفَ يتحدَّثُ.."، ولن يهتم الطفلُ في هذه المرحلة بأكثرَ من تفسيرٍ بسيط لسلوك أخيه الغريب، وبالنسبة إلى طفل أكبر فإنَّه سيهتم غالباً بأمورٍ أعمقَ قليلاً كأنْ يشرحَ التوحُّدَ لأصدقائه، ويمكن للحديث في مرحلة المراهقة أن يصبحَ أعقدَ ويشمَلُ شرحاً عن أسباب حدوثه، والجيناتِ التي قد تسببه، وطريقة التعامل معه، فاهتمامُ الأفراد في هذه المرحلة سيتحوَّلُ نحو الدور المتوقع منهم في المستقبل تجاه أخيهم.

إذاً فالمبدأُ الأساسُ هو تقديمُ الشرح للطفل بِما يمكن له فهمُه وبِما يهمُّه، والشِقُّ الآخرُ هنا هو تكرار الشرح مع تقدمهم في العمر، وكذلك فعَلينا ألّا نخلطَ امتلاكَ الطفل لمخزونٍ لغويٍّ غنيٍّ بقدرته على فهم هذا المخزون، فقد يستعمل الأطفال بعض الكلمات التي يسمعونها خلال حديث الأهل مثل : التوحد، والمُحاكَمة المنفصِلة ..وغيرها، ولكن هذا لايعني أنَّهم يفهمون مغزاها، لذلك يجبُ تكرارُ الشرح للأطفال مع تقدمهم بالعمر وباستعمالِ عباراتٍ مناسبةٍ لمرحلتِهم العمريّةِ.

 

- خصص وقتاً لأطفالك الآخرين

نعم؛ يجبُ على الأهل أن يحرصوا على وجود ابنهم المصاب في النشاطات العائلية، ونيلِه الاهتمامَ الكافي، ولكنْ - في الوقتِ ذاتِه - عليهم أن يخصِّصوا أوقاتاً معينة لبقيّة أطفالهم؛ أي ليلةً ما في الأسبوع أو صباحَ الجمعة أو حتَّى بضعَ دقائقَ قبل خلودهم إلى النوم، وربّما يكونُ البرنامجُ اليوميُّ لنشاطاتِ الطفل المصاب شاغلاً الحيّز الأعظم من وقتِهم ممّا يصعِّبُ عليهم التفرُّغ للبقية، ولكنْ من الضروري أن يشعرَ الطفل السليم بخصوصيته لدى أهله وبالمساواةِ ضمن العائلة أيضاً.

- ليس من الضروري أن نفعل كلَّ شيءٍ سويّة

هناكُ بعض النشاطات الجماعية التي يجب أن يؤديها أفراد العائلةِ سويَّةً، وهناك نشاطاتٌ فرديّة أو لا تشمَل الجميع أيضاً.

وإضافةً إلى تخصيص وقت مُعيَّنٍ للأطفال الآخرين؛ يجبُ أن نعرفَ أيضاً أنَّه هناكَ بعضَ الأحداثِ التي يستحق أن يكون فيها الطفلُ السليم موضعَ الاهتمام في العائلة، وربّما يكون من المفضَّلِ حقيقةَ عدمُ الإصرار على اشتراك الجميع في أداء بعض النشاطات؛ مثلاً.. لا يستطيع الطفل المصاب بالتوحد أن يجلس لفترة طويلة دون حَراك،  ومن ثمَّ لن يستطيعَ أن يشاهدَ عرضاً مسرحياً يشاركُ فيه أخوه \أختُه، ويُفضَّلُ في هذه الحال بقاؤُه في المنزل.

- الأخوة الأكبر سناً

لن ينتهي دورُ الطفلِ كأخٍ لِمصابٍ بالتوحُّد مع بلوغه، فهي علاقةٌ تستمرُّ مدى الحياة، وتكبُرُ وتنضَجُ مع التقدُّم في العمر.

وبالطبعِ ستختلفُ تساؤلاتُ الأخ البالغ أو المراهق عنها لدى الطفل الصغير؛ إذ سوف تتركَّزُ حولَ سبب إصابة أخيه بالتوحُّد وعلاقة العامل الوراثي بذلك في إطار تفكيرِه بالزواج وإنجاب الأطفال مستقبلاً، وفي حالاتٍ أُخرى قد يشعر بعض الأخوة بالهوَس تجاه مسؤوليتهم ودورهم في رعاية أخيهم المصاب؛ ممّا قد يؤثر على حياتهم الخاصة أيضاً؛ ما يمثّلُ عائقاً أمام خروجِهم من الجوِّ المنزلي وتأسيسِهم أسرةً خاصةً بهم.

ويجب على الأهل أن يوضحوا لأبنائهم ما يُتَوقَّعُ منهم في إطار التعامل مع أخيهم ورعايته، إضافةً إلى تَبيان صحّةِ افتراضاتهم حيال دورهم مِن عدمها.

وستزيدُ  تساؤلاتُ هؤلاء الأطفال ازدياداً كبيراً حين يكبُر الوالدان، فحينها يُدرِكُ الابنُ أنَّ الوقتَ قد حانَ لِيتولّى رعاية أخيه  مع عدم قدرة الأهل على الاستمرار بتقديم الرعاية كالسابق، وفي هذا الوقت إن لم يكنْ الفرد المصاب يعيشُ خارج المنزل بَعدُ يُفَضَّلْ أن يُنسَّبَ لمجموعة منزلية خاصة.

وفي العائلات التي يحتاج الطفل المصاب بالتوحد فيها إلى هذا النوع من الرعاية؛ يجب أن يُناقَشُ موضوعُ رعاية المصاب بين الأهل والأبناء البالغين ويجب أن يُطرَحُ السؤالُ الأساسُ هنا: مَنْ سيرعى الطفلَ المتوحِّدَ حين يُتوَفَّى الأهلُ؟!

نعم؛ ليس يسيراً على أيٍّ منا أن يتحدَّثَ عن موته، ومن الصَّعبِ على الأبناءِ أن يخوضوا هذا الحديثَ، ولكن يجب أن يعرف الأبناءُ البالغون ما هي الخططُ المستقبليّة لرعاية أخيهم التي سبق أن وضعَها الأهلُ، وماذا يتوقَّعون منهم. وعلى الرغم من صعوبة خوض هذه المحادثات؛ لكنّها ستشكل دعماً لأبنائكم وتساعدهم مستقبلاً، إضافةً إلى تمكينهم من تنفيذ رغباتكم بعد الوفاة!

ومع كلٍّ ما يعنيه أن تكون أخاً لطفلٍ مُصابٍ بالتوحُّدِ، وما يمكن أن يخلقَه من تحدياتٍ وصعوباتٍ؛ لكنَّ ذلك يبقى عائقاً يمكن لكَ تخطّيه؛ إذ يتجاوزُ معظمُ الأخوة والأخوات تلكَ التحدياتِ بكفاءة عالية، ويتكيّفون جيداً ويستجيبون بالحبّ والعطف والوعي.

المصادر :

هنا

هنا