منوعات علمية > العلم الزائف

طاقة الهرم: معجزة أم خرافة؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

يُحيل كثيرٌ من الناس قدراتٍ  إعجازية للشكل الهرمي، ويمكن أن نتفق معهم على أنّ الأهرامات الفرعونية توصف بكونها معجزة حقيقية تستحقّ الاحترام والدراسة من الناحية التاريخية والرياضيّة والمعمارية، ولكن وصلت الأمورإلى الحدّ الذي لا يمكن للعلم السكوت عنه؛ فقد أصبحت "طاقة الهرم الخارقة" موضوعًا ذائع الصّيت، مع ما يرافقه من ادِّعاءات الإعجاز العلمي للهرم في النواحي البيولوجية والفيزيائية، ولا سيّما حين ينسب المدّعون هذه الادعاءات إلى "تجارب علمية أدّاها علماء"؛ مما يجعل العامّة تثق بكلامهم ثقةً عمياء دون مساءلتهم عن المنهج التجريبيّ أو الاستقرائي الذي أفضى بهم إلى هذه النتائج لعَدِّهم أنَّهم يحملون رسالة العلم التي يفترض أن يكون احترامها عند العالم بموازاة احترامه شرفه الشخصيّ.

بدأت خرافة "طاقة الهرم" منذ عام 1930، على يد عالمٍ فرنسيّ اسمه "أنطوان بوفيس" Antoine Bovis، والذي ادّعى أنه اكتشف طاقة الهرم الخارقة من ملاحظاته الشخصية في زيارته إلى أهرامات مصر، وفي عام 1950؛ أعيد نشر الخرافة على يد مهندسٍ ألماني يدعى "كارل داربال" Carl Darbal والذي ادّعى أنّ شفرات الحلاقة المثلّمة حين توضع ضمن هرمٍ ذي أبعادٍ معينة، فإنّ طرفها المعدني يصبح مصقولًا وحادًّا أكثر! وسجل "اختراعه" وحصل على براءة اختراع، ومن ثم صنَّع أهراماتٍ صغيرةٍ بلاستيكية للاستعمال المنزلي وبيعها!

بعد ذلك دخل إلى الخطّ "ماكس توث" Max Toth صاحب كتاب "طاقة الأهرام" الأكثر مبيعًا في السبعينات؛ إذ بدأ ببيع أهراماتٍ عجائبية الطاقة أيضًا بعد نشر كتابه، واصطدم (عالما الأهرامات) مع بعضهما قانونيًّا بسبب تطابق أسماء كتبهما.

وقد طوَّر أولئك الأشخاص -في الفترة اللاحقة لبدء تلك التجارة الرابحة- الادعاءات عن طاقة أهراماتهم البلاستيكية، فهي لم تعد تسنّ طرف الشفرات فحسب؛ بل أصبحت تمنع الأطعمة من التعفّن، وتعقّم وتحدّ من النمو البكتيري، وتسرّع نمو النباتات حتى إنّها تشفي الأمراض عند جلوس المرضى بداخلها وتقوّي القدرات الجنسية!

فأصبح يبدو أمام العامّة في تلك المرحلة أنّ علم طاقة الهرم علمٌ حقيقيٌّ موثوق ومجرّب وله شروطٌ ضابطة ومعادلاتٌ مقبولةٌ علميًّا، على الرغم من أنّ المسألة ليست سوى ادعاءٍ غير مثبتٍ من أولئك الأشخاص بنجاح تجاربهم الشخصيّة دون أن يقدموا أيّ براهين أو أدلة على ذلك.

وفي يومنا هذا؛ لا زلنا نجد الآلاف (هل أقول الملايين؟) ممن لا يزالون يؤمنون بطاقة الهرم، ويمارسون الاستشفاء الهرميّ، بل ويدفعون مبالغ كبيرة لمنتجات تدّعي شركاتها أنّها منتجات "ذات طاقةٍ عالية" بفضل حفظها داخل أهرامات!

وسوف نتناول القصة منذ بدايتها عند العالم الفرنسي "بوفيس" والتي نقلها عنه إلى العربية الكاتبُ المصري (أنيس منصور)؛ إذ طرح بوفيس رواية يقول أنه شاهدها بأمّ عينه في "هرم خوفو" بغرفة الدفن الخاصة بالملك؛ يقول أنه رأى جثثًا لقطةٍ وكلب وعلى الرغم من أن الجو مشبع بالرطوبة؛ لكن الجثتين لم تتحللا أو تتعفنا؛ مما دفع به لنتيجةٍ مفادها أنه إذا وضِعَت مادة عضوية تحت شكلٍ هرميّ فإن الجثة لا تتحلل ولا تتعفن، وهو يدّعي أنه أدَّى تجارب مماثلة ناجحة على موادّ عضوية (اللبن والبيض واللحوم).

سنستعمل هذا الادعاء التاريخيّ -الذي سبّب بداية خرافة الهرم- لتدريب عقولنا على النقد من زاويتين، الزاوية الأولى هو النقد العقلي: ويعني مطابقة النتائج لمبادئ العقل الأولى التي لا تحتاج لبرهنة لأنها تكوّن بنية التفكير العقلي عند الإنسان نفسه، وأما الزاوية الثانية فهي النقد العلميّ الذي يعتمد الملاحظة والتجريب مقياسًا للبرهنة على صحة النظرية .

النقد من الناحية العقلية وقاعدة البداهة والوضوح:

1- لنفترض أن "بوفيس" رأى ما رآه، والسؤال ألا يزور الهرم يوميًّا مئات بل آلاف الناس؟؟ فكيف تسنّى لمثل هذه الظاهرة ألا يراها سوى شخص وحيد؟

2- كيف يمكن أن يرى الحراس والزوار جثتين لحيواناتٍ نافقة دون أن يكلّفوا أنفسهم عبء إزالتها للحفاظ على نظافة هذا المَعلَم الأثري؟

3- لمَ أجهد الفراعنة أنفسهم بتحنيط جثث موتاهم إذا كان بقاؤها تحت الشكل الهرمي لوحده كفيلًا بحفظها من التحلل؟

4- إذا فرضنا صحّة هذا الكلام، لماذا لا نصنع أشكالًا هرمية في بيوتنا -أو في شركات الإنتاج الغذائيّ الكبرى- لحفظ طعامنا وبذلك نوفر الكثير من الطاقة المهدورة لحفظ وتبريد الأطعمة؟

النقد من الناحية العلمية التجريبية :

منذ أن طرح "بوفيس" نظريته، فهناك العديد من العلماء الذين رفضوها وشككوا بها، وفي مقابلهم هناك البعض ممّن وافقوه على ادّعائِهِ؛ أمثال رائد الفضاء إدغار ميتشل، و د. بوهاريتش، و د. جون تايلور، و د. ليال واطسون عالم البيولوجيا وصاحب كتاب "فيما وراء الطبيعة"! إضافةً إلى المهندس كارل داربل الذي ذكرناه سابقًا، والذي طوّر قياسات خاصة للأهرامات (الناجحة)؛ إذ اشترط لنجاح التجربة تحقّق نسبةٍ معينةٍ بين قاعدته وضلعه هي 715 ثم اشترط توجيه المثلث لتكون أضلاعه مواجهة للشمال والجنوب المغناطيسي ثم للشرق والغرب، وهذه التجربة البسيطة يستطيع أي فردٍ عملها في المنزل من قصاصات الورق المقوّى، ويكتشف بطلان هذا الكلام بنفسه.

أما إعادة التجربة بافتراض المنهج العلميّ في المكان ذاته الذي هو الهرم الكبير؛ فقد اتبع الدكتور "عبد المحسن صالح" منهج البحث العلمي الدقيق، وأدَّى تجربته على وضع قطع من البطاطس واللحوم والحساء تحت الهرم، ووضع مثيلاتها -على أنها مجموعة ضابطة- خارج الهرم، ويجب الأخذ بالحسبان هنا أنّ الفروق الطبيعية في درجة الحرارة بين الداخل والخارج هي 8-10 درجات مئوية، والانخفاض في درجة الحرارةا يؤخر التعفّن والتحلل، ولكن عند مقارنة القطعة التي داخل الهرم بالقطعة التي خارجه تحت مجهر لتعداد المستعمرات الجرثومية؛ كانت النتائج أن القطع التي وضِعَتْ خارج الهرم كان تعداد البكتيريا بها 14 بليون، وفي حجرة الملك 28 بليون، وفي سرداب تحت الهرم 58 بليون، وذلك في الغرام الواحد؛ أي إنّ  النتائج أظهرت أنّ التحلل كان أسرع داخل الهرم من خارجه، فعلى ما يبدو أنّ الظروف داخل الهرم كانت مواتية لتكاثر البكتيريا ومن ثم التحلل والتعفن!

وفي تجربةٍ أخرى أذيعت على قناة ديسكفري، عام 2006، أجرى فريق العمل عدّة اختباراتٍ على شفرة حلاقة وتفاحة وزهرة وكوبٍ من الحليب في محاولةٍ للتحقق إن كان أيٌّ من التأثيرات المتوخاة من الطاقة الهرمية قد يكون حقيقيًّا بالفعل، ولا داعي للقول إنّ النتائج كانت غير مختلفة في تآكل وتعفن المواد التي وضعت داخل الهرم وخارجه..

يجدر بنا ذكر أنّك قد تصادف في إعلانات بعض الشركات التي تتاجر بمنتجات الطاقة الهرمية، معلومةً تقول إنّ العالِم الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء "لويس ألفاريز" Luis Alvarez قد أدّى تجربة ناجحة لفحص "الإشعاع الهرمي" داخل أهرامات مصر، وحين بحثنا في هذه المعلومة تبيّن أنّ  التجربة كانت علميّة بحتة، وتهدف للبحث عن حجراتٍ مخفيةٍ داخل الهرم عن طريق قياس الإشعاع الكونيّ الذي يخترق كلّ شيءٍ محيط بنا (كما تُفحَص أجسادنا باستخدام أشعة إكس)، فلو تبين أنّ كثافة الأشعة القادمة من أحد الاتجاهات أعلى، فيعني هذا أنّ الأشعة مرّت عبر صخورٍ وحجارة أقل، ومن ثم يمكن إيجاد حجرةٍ سريةٍ في هذا الاتجاه، أي أنّ تلك التجربة لا علاقة لها بخرافة طاقة الهرم الشفائية، ولكن جشع الشركات يدفعها لتحريف هذه المعلومة واستغلالها لإقناع المشترين بأنّ منتجاتها موثقةٌ من قبل علماء.

وهكذا نرى أنّ دراسة الأهرامات بمنهجٍ علمي رصين ودقيق يزيح الخرافات المحيطة به ويضيّق المجال على العلم الزائف أو التفسيرات اللاعلمية، وهذا المنهج يعتمد الملاحظة والتجريب لاستنتاج خلاصةٍ تساعد على فهم ظواهر الكون وقوانينه على نحو أكثر موضوعية ومصداقية .

المصادر:

د. عبد المحسن صالح : الإنسان الحائر بين العلم والخرافة، منشورات مجلة المعرفة، العدد 15، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، 1979 .

د. عبد المحسن صالح : دورات الحياة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، سلسلة المكتبة الثقافية، القاهرة، 1978 .

هنا

هنا

هنا

هنا