الطب > مقالات طبية

الموسيقا والطب: حكمة قديمة – علم حديث

استمع على ساوندكلاود 🎧

الاستعمالُ العلاجيّ للموسيقا يعودُ إلى زمنٍ قديم، ففي اليونانِ القديمةِ كانت مزاراتُ الشّفاءِ تحتضنُ أخصائيّي التّرنيم والأطباء سويةً. أما القبائلُ الأمريكيةُ الأصليةُ فقد رقصتْ وغنّتْ وضربت الطبول لِتشفى الأمراض، استعملَ الكهنة المسيحيون الأوائل التّرنيمَ كوسيلةٍ لتخفيفِ الألمِ عن المرضى.

أثبتتْ الدراسات العلميّة اليوم ما عرفه القدماء بشكلٍ غريزيّ موروث أنّه من الممكنِ للموسيقا أن تكونَ دواءً.

تبنى أبوقراط مقولةَ "العقل السليم في الجسم السليم" والتي تضمَنَتْ الاهتمامَ بالصّحةِ العقليّةِ والعلاجِ باستخدامِ الفنونِ المختلفةِ حيثُ استعملَ كلٌّ من الموسيقا والمسرح في علاجِ الأمراضِ وتحسينِ السّلوك في زمنه. كانت الفكرةُ قائمةً على أنّ علاجَ الرّوح من خلال الموسيقا سوف يُشفِى الجسد أيضاً مع تطبيقاتٍ محددة فعلى سبيل المثال اُستعمِلَ الناي والقيثارة في علاجِ النّقرس.

يهدفُ العلاجُ بالموسيقا اليوم إلى التأثيرِ على كلٍّ من العواطفِ والفيزيولوجيا، يُعتَبَرُ العلاجُ بالموسيقا مهنةً صحيةٍ مساعدةً معترفٌ بها رسمياً، وهي تفترض وجودَ علاقة علاجية بين المريض ومعالج موسيقي مرخص له بذلك. التقنياتُ العلاجيةُ المستعملةُ مصممةً لتُحدِثَ تبدلاتٍ وظيفيةٍ في الدماغ والمزاج والسلوك.

تقومُ الموسيقا بتعديلِ موجاتِ الدّماغِ، ومن الممكنِ رؤيةُ ذلك بواسطةِ مِرْنان الدّماغ الوظيفيّ، ويحددُ نمط النّشاطِ في كلّ من النواةِ المتكئةِ والقشرِ السمعيّ في ما إذا كان الشخصُ يستمتعُ بقطعةٍ موسيقية أم لا. منطقةٌ أخرى من الدّماغ تُدعى التلفيفَ العلويّ الصدغيّ تقومُ بدورِ نظامِ تزكيةٍ موسيقيةٍ يساعدُ الشخص على اختيارِ نمط الموسيقا الذي يرغب في الاستماع إليه وشرائه.

من الممكن أن تؤثرَ الموسيقا على الضغط الشريانيّ ارتفاعاً أو انخفاضاً بناءً على سرعتِها وطريقةِ استقبالِ الفرد لها، قامت دراسةٌ بتعريضِ مرضى فُرطِ التّوترِ الشريانيّ الأساسي إلى 30 دقيقة من أوبرا كونشيرتو الكمان لبيتهوفن (الحركة الثانية) Larghetto، أظهرتْ النتائجُ انخفاضَ الضّغط الانقباضي والانبساطي بشكلٍ مهم عند هؤلاء المرضى.

وثّقت بعضُ الدراسات مؤخراً التأثيرَ الإيجابي الذي تمتلُكه الموسيقا على مرضى الخرف، إذ يفترضُ بعضُ العلماء أنّها تعيدُ تحفيزَ وتجديدَ العديد من المناطق في الدماغ في الوقت الذي يبطُؤ فيه التنكس العصبيّ. أثمرَ اختيار المرضى للموسيقا  أفضل النتائج ولاسيما الخيارات التي تتضمنَ الاستماع إلى الأغاني والتي تميلُ لأن تكونَ النّمط الواعد من الموسيقا في علاجِ الخرف.

بعضُ الشّركات مثل شركة Brain.fm تقومُ بإنتاجِ موسيقا وأصوات قادرة على تكييف الدماغِ ليصلَ إلى حالةٍ إدراكيةٍ معينةٍ ومن الممكن أن تتم مواقتة تذبذبِ الموجاتِ الدّماغية مع الموسيقا للوصول إلى الحالة المطلوبة مثل: الاسترخاء، تخفيف الألم، النوم، وغيرها...

تقترحُ الأبحاثُ أن الموسيقا من الممكنِ أن تُحسّن من التواصل، السّلوك، الإدراك، التّفاعل الاجتماعي، والتّنظيم العاطفي عند مرضى طيف التّوحد، ويبدو أن الموسيقا تقومُ بذلك من خلال تحفيزِ نصفي الكرة المخية، وتنظيم الجهاز الحسيّ، وزيادة مهارات الإدراك الحركية.

    أُثبِتتْ الفعاليةُ الكبيرة للموسيقا في تحسين العادات الصحيّة للنوم، إذ أظهرت دراسةُ تَحسّنِ النّوم لدى المشاركين الكبار في العمر على مدى 3 أشهر استمعوا فيها إلى موسيقا بطيئة ومهدئة كل ليلة، شملت نواحي التّحسن طورَ الوصول إلى النّوم وكفايته إضافةً إلى تحسن الأداء الوظيفي خلال اليوم، وأظهرت دراساتٌ مشابهةٌ  حدوثَ انقطاعاتٍ أقلّ في النوم، تطاول في نمط نوم حركات العين السريعة عند البالغين المصابين بالأرق.

تقومُ الموسيقا بإطلاقِ موادّ كيميائية رافعة للمزاج مثل الدوبامين والإندورفين وموسيقا موزارت بالتحديد تساعدُ على تعزيزِ النّقلِ العصبيّ المتواسطِ بالدوبامين، كانت وما زالت الموسيقا تساهم في علاج انعدام التلذذ.

قد تكونُ الموسيقا أداةً مهمةً في تدبيرِ الألم المزمن، إذ وَجدَتْ دراسةٌ- باستعمال التحليل التلوي- أنّ الموسيقا البطيئةَ اللطيفةَ التي اختارها المرضى خفّفت  طيفاً واسعاً من الآلام بما في ذلك الألم العينيّ، والبوليّ، والنسائيّ، والقلبيّ، والجراحيّ. إذ قُدِّرَ ذلك باستعمالِ مقاييس الألم وتناقصِ الحاجةِ إلى المسكناتِ، وتحسّنِ العلامات الحيوية، إضافةً إلى انخفاضِ المستويات المصلية لكل من الكورتيزول وسكر الدّم.

يزيدُ الانخراطُ الفعّالُ في الموسيقا من معدلِ الذّكاءِ، كما يؤثرُ على أجهزةٍ أخرى مثل: المهارات الحركية، اللغة، التّطوير الذهني، القدرات الإدراكية. إنّ التّعلم والعزفَ على آلةٍ موسيقيةٍ يخلقُ شعوراً بالإنجازِ كما يبنى تقديراً للذات وتهذيباً للنفسِ، ويعزز مهاراتِ العملِ ضمن الفريق.

كون الموسيقا مُعدّلَةٌ للمزاجِ هو أمرٌ مألوفٌ بالنسبة لمعظمِ النّاس لكنها تؤثرُ على كلّ فردٍ بشكلٍ مختلفٍ بناءً على ما يستمعُ إليه أو يعزفُه إضافةً إلى طريقةِ استقبالِه للموسيقا وعمره. بوجهٍ عامٍ للموسيقا تأثيرٌ قويٌّ ونافعٌ على المزاج والميول والآفاق.

منذ فجرِ التاريخِ -عندما وُجِدَ الإنسانُ- كان لديه دوماً الدافع لصنعِ الموسيقا، وقد استعملها لعلاجِ المرض والوصول إلى حالات معينة. اليوم تلقف العلم ما عرفناه بشكلٍ غريزيٍ عبر التاريخ وقد أَذهَلتْ المعطياتُ والمعلوماتُ العديدَ من الباحثين. يلعبُ نوعُ الموسيقا المختارُ دوراً حاسماً في نجاح العلاج، إذ إنّ الشّدات والتواترات المختلفة تطلقُ مشاعرَ وموجاتٍ دماغية مختلفة بين المرضى.

بينما يتابعٌ الباحثون عملهم ليجعلوا استعمالَ الموسيقى كعلاج مثالي، يستطيعُ المرضى والأطباء تجربةَ موسيقاهم الخاصة واستعمال النماذجِ الموجودةِ حالياً مثل: مواقتة الموجات الدماغية، والتلقيم الراجع لتخطيطِ الدّماغ الكهربيّ لتحسين مناحٍ صحية عديدة.

 

المصدر:

هنا