المعلوماتية > عام

معالجاتٌ أصغرُ من راحة الكفّ ذات قدرة عملٍ هائلةٍ... كيف بدأت؟

استمع على ساوندكلاود 🎧

اِختُرِع الترانزستور عامَ 1947، وانتشر استخدامه في الأدوات الإلكترونيّة الموجودة حولنا جميعَها، ابتداءً براديواتِ الجيب الصّغيرة، وليس انتهاءً بالحواسيبِ الفائقة.

يدعى جيلُ الترانزستوراتِ الأوّلُ الترانزستورَ ثنائيَّ القطبيّةِ BJT، ولا يزال مستخدماً حتّى اليوم. ومع حلول العَقد السّابع من القرن الماضي، كان بعض المهندسين قد توصّلوا إلى كيفيّة دمج عدّة ترانزستوراتٍ من نوعِ BJT لتشكيل دارةٍ متكاملةٍ واحدةٍ، ولكنّ تعقيدَ بنية الترانزستورات أدّى إلى اقتصار الدّارة على عددٍ قليلٍ منها. ولذلك كان الحاسوبُ الصّغريُّ المبنيُّ من هذه الدّارات المتكاملة يتطلّب صنعُه عدّة لوحاتٍ تحوي مئاتَ الرّقاقات.

في عام 1960، بزغ نوعٌ جديدٌ من الترانزستورات: الترانزستورُ معدن-أكسيد نصفُ النّاقلِ MOS. في البداية، لم تكن هذه التّكنولوجيا واعدةً، فقد كانت هذه الترانزستورات أبطأَ، وأقلّ موثوقيّةً، وأكبرَ كلفةً من نظيرتها ثنائيّة القطبيّة BJT. لكن بحلول عامِ 1964، تفوّقت الدّارات المتكاملة المبنيّة من ترانزستوراتِ MOS على تلك المبنيّة من نظيرتها ثنائيّة القطبيّة إذ أصبحت تكلفة صناعتها أقلَّ.

يعتقد  كثيرٌ من المهندسين اليوم أنّ ثورة المعالجات الدّقيقة بدأت عام 1971 بإنتاجِ شركة إنتل الرّقاقة 4004 بمعماريّة 4 بت والرّقاقةَ 8008 الّتي تلتها مباشرةً بمعماريّة 8 بت، لكنّ قصّةَ اختراع المعالجات الدقيقة أعمقُ من ذلك، ومليئةٌ بالمفاجآت. فعلى سبيل المثال، كُشِفَ مؤخّراً عن مستنداتٍ توضّح كيف كان يمكن لرقاقة TMX 1795 المنسيّةِ منذ زمنٍ والمصنّعة من قِبَل شركةِ Texas Instruments أن تتفوّقَ على رقاقة إنتل 8008، وتصبحَ أوّل معالجٍ دقيقٍ يعمل بنظام 8 بت.

مخترعو المعالج الصّغريّ 4004 (4  بت) من اليمين إلى اليسار: ستانلي مازور، مارسيان "تيد" هوف الابن و فيديريكو فاجن

التّطبيق الحاسوبيّ لدارات MOS المتكاملة فتح البابَ لإنتاج أوّل معالجٍ دقيقٍ، إذ صُنِّع أوّلُ حاسوبٍ مبنيٍّ من رقاقات MOS-LSI عامَ 1967 من قِبَل قسم Autonetics في شركة North American Aviation المتخصّصة في تصنيع أجهزة الملاحة الجوية في كاليفورنيا. سُمّي هذا الحاسوب D200، وكانت وحدة معالجته المركزيّة مكوّنةً من 24 رقاقةَ MOS.

بعد فترةٍ زمنيّةٍ قصيرةٍ تلا حاسوبَ D200 جهازُ حاسوبٍ آخرُ خاصٌّ بالطّيران يحتوي على 3 وحدات معالجةٍ مركزيّةٍ و28 رقاقةً. صُمّم هذا الحاسوب كنظامِ تحكمٍ للطّائرات المقاتلة F-14، واستُخدِمت رقاقةُ MP944 من نوع MOS-LSI في صنعه. لم تكن بنية حاسوب المقاتلة F-14 اعتياديّةً، فقد احتوى الحاسوب على ثلاث وحدات تشغيلٍ وظيفيّةٍ تعمل على التّوازي: واحدةٍ لإجراءِ عمليّات الضّرب، وواحدةٍ لعمليّات القسمة، وواحدةٍ للعمليّات المنطقيّة. كلّ وحدةٍ وظيفيّةٍ تتألّف من عدّة أنواعٍ مختلفةٍ من رقاقات MOS كرقاقةِ ذاكرةِ ROM (تحتوي على البيانات الّتي توجّه عمل الوحدة الوظيفية)، ورقاقةِ ذاكرةِ RAM (لتخزين البيانات بشكلٍ مؤقّتٍ)، ورقاقةٍ لتوجيه البيانات، ورقاقاتٍ مختلفةٍ للعمليّات الحسابيّة.

لم تكن الرّقاقة MP944 معروفةً لأنّ حاسوب المقاتلة F-14 كان سرّيّاً، لكنّ D200 نُشر على نطاقٍ واسعٍ وساهم ذلك بصنع حاسوبٍ آخرَ، وهو النّظام IV من اختراع Lee Boysel. بُنيَت وحدة المعالجة المركزيّة للنّظام IV (بمعماريّة 24 بت) من تسعِ رقاقاتِ MOS فقط: ثلاثٍ لوحدةِ الحساب والمنطق ALU، وثلاثٍ لذاكرةِ ROM، وثلاثٍ للعمليّات المنطقيّة المختلفة.

في الوقت نفسه تقريباً، انطلقت شركةٌ ناشئةٌ في ولاية ماساتشوستس تدعى Viatron computer systems، وبعد مرور سنةٍ واحدةٍ على انطلاقها عامَ 1967، أعلنت عن نظامها الجديد النّظامِ 21، وهو حاسوبٌ صغيرٌ يعمل بنظام 16 بت مع ملحقاتٍ مختلفةٍ، ومبنيٌّ كلّيّاً من رقاقاتِ MOS خاصّةٍ.

تعَدّ شركة Viatron أوّل من أطلق تسمية المعالج الدّقيق، إذ استخدمتها للمرّة الأولى في إعلانها عن المنتج 2101 في تشرينَ الأوّل (أكتوبر) عامَ 1968، ولكنّ الشّركة لم تستخدم تسمية المعالج الدّقيق للتّعبير عن رقاقةٍ فحسبُ، بل للتّعبير عن جزءٍ من جهازٍ ذكيٍّ له لوحة مفاتيحَ، ووسائل تخزينٍ، ويمكن وصلُه بحاسوبٍ صغيرٍ. هذا الجزءُ، أي المعالج الدّقيقُ، كان يتحكّم بالجهاز ككلٍّ، وكان مكوّناً من 18 رقاقةِ MOS على 3 لوحاتٍ منفصلةٍ.

بحلول نهاية السّتّينيّات من القرن الماضي، وفي خضمّ هذه التطوّرات كلّها، تعاقدت شركة Busicom اليابانيّة لتصنيع الآلات الحاسبة مع شركة إنتل لصناعة لآلةٍ حاسبةٍ متعدّدة الرّقاقات. تَلخّص المنتج النّهائيّ برقاقةٍ واحدةٍ كوحدة معالجةٍ مركزيّةٍ اشتُهرت باسم 4004، مصحوبةً برقاقةٍ أخرى للتّخزين، والإدخال، والإخراج. غالباً ما تعَدّ الرّقاقة 4004 أوّلَ معالجٍ دقيقٍ، وكانت تعمل بنظام 4 بت، أي تتعامل مع البيانات بعرض 4 بت فقط.

عندما ظهرت الآلة الحاسبة الّتي تحتوي الرّقاقة 4004 عامَ 1971، لقيت قدراً كبيراً من المنافسة، إذ أنتجت شركة أنصاف النّواقل Mostek أوّلَ آلةٍ حاسبةٍ ذاتِ رقاقةٍ واحدةٍ وسمّتها MK6010. وأنتجت شركتا Pico Electronics و General Instrument الآلة الحاسبة g250 المبنيّةَ على رقاقةٍ واحدةٍ أيضاً. كانت هذه الدّارات تعمل بشكلٍ جيّدٍ جدّاً، ومع ذلك كان عملها محدوداً، في حين أنّ عملَ المعالجِ 4004 كان يعتمد على تنفيذ التّعليمات المخزّنة في ذاكرة ROM خارجيّةٍ، ولهذا استُخدِم في الحواسيب متعدّدة الاستعمالات.

كلّ ما سبق كان عن رقاقاتٍ تعمل بنظام 4 بت، لكن للمعالجات الدّقيقة الّتي تعمل بنظام 8 بت والّتي تلت 4004 قصّةٌ مختلفةٌ بدأت عام 1969 بظهور طرفيّةٍ قابلةٍ للبرمجة تدعى Datapoint 2200 بمعالجٍ بمعماريّةِ 8 بت من تطوير وإنتاج شركة Computer Terminal Corp في تكساس (CTC). احتوت الطّرفيّة على 100 رقاقةٍ من نوع BJT. كان مصممّو الشّركة يبحثون عن طرائقَ لتخفيض كلٍّ من الحرارة واستهلاك الطّاقة. ولذلك، في مطلع عام 1970، نسّقت الشّركة مع إنتل الّتي كانت لا تزال شركةً ناشئةً ذاتَ مئة موظّفٍ آنذاك، لتبني رقاقة MOS واحدةٍ لتُستبدل بها لوحة المعالجة في Datapoint 2200، ولكن من غير المجزوم به أيٌّ من الشّركتين أتت بفكرة الرّقاقة الواحدة.  وبحلول شهر حزيران (يونيو) من العام نفسه، كانت إنتل قد طوّرت المواصفات الوظيفيّة لرقاقةٍ واحدةٍ بالاعتماد على بنية Datapoint 2200، لتوقِفَ المشروع مؤقّتاً لمدّة 6 أشهرٍ، ولتصبحَ لاحقاً تلك الرّقاقةُ الّتي طوّرتها معالجَ إنتل 8008 الّذي يعمل بنظام 8 بت.

في العام نفسه، عندما علمت شركة TI) Texas Instruments) الضّخمةُ الّتي عمل بها آنذاك 45،000 موظّفٍ بمشروع معالج إنتل طلبت من شركة CTC أن تعمل هي الأخرى على معالجٍ لطرفيّة Datapoint، فوافقت، وقدّمت لمهندسي TI مواصفات الحاسوب. وبعد ذلك قدّمت TI معالجاً مكوّناً من 3 رقاقاتٍ إلى CTC، ولكنّ الأخيرة طلبت من TI أن تطوّر معالجاً مكوّناّ من رقاقةٍ واحدةٍ كالّذي كانت تطوّره إنتل. فبدأت TI في شهر نيسان (أبريل) من العام نفسه بالعمل على ذلك، فأنتجت وحدة معالجةٍ مركزيّةٍ من رقاقةٍ واحدةٍ لتحمل اسمَ TMX 1795 بالمرحلة التّجريبيّة، واسمَ TMC 1795 بعد إطلاق المشروع في حزيران (يونيو) من عام 1971، ولكنّها للأسف لم تحقّق النّجاح المتوقّع، فرفضت CTC المشروع. ولذلك على الرّغم من أنّ الفضل الأوّل في إنتاج معالجٍ صغريٍّ يعمل بنظام 8 بت يعود إلى إنتل، لا بدّ من الاعتراف بفضل شركة TI بالعمل عليه، حتّى وإن كانت أضاعت الفرصة من يدها.

بعد ذلك انتهت شركة إنتل من عملها على المعالج الصّغريّ 8008، وبدأت التّسويق له في العام 1972، وبعد عامين أنتجت بالاستناد إلى 8008 المعالجَ الصّغريّ 8080، الّذي بدوره أثّر بشدّةٍ في معالجها الصّغريّ الّذي أنتجته لاحقاً 8086، الّذي مهّد الطّريق لخطّ إنتاج رقاقات x86 الحاليّ. فإذا كنتم الآن تستخدمون حاسوباً يعمل بمعالجٍ من نوع x86، فإنّكم تستخدمون حاسوباً مرتكزاً على تصميمٍ يعود بالتّاريخ إلى الطّرفية القابلة للبرمجة Datapoint 2200 المُنتَجةِ عامَ 1969.

كما رأينا، لم يكن تطوّر المعالجات الصغريّة ثابتاً كخطٍّ مستقيمٍ، بل كان نتيجةً للفرص والعديد من القرارات الإداريّة الّتي كان من المحتمل أن تأخذ منحىً مختلفاً تماماً. ويعَدّ استخدامُ إنتل تقنياتٍ أكثرَ تطوّراً السّببَ الأساسيَّ في تفوّقها على منافِستها TI، أبرزُ تلك التّقنيات بوّابات الانحياز الذّاتيّ المصنوعةُ من البوليسيليكون polysilicon، والّتي سرّعت الترانزستورات، وحسّنت من خرجها، وسمحت بوضع الترانزستورات بشكلٍ أشدّ ارتصاصاً، فكان حجم كلٍّ من 4004 و8008 معاً أصغرَ من حجم TMC 1795 كما هو موضّحٌ في الصّورة.

مقارنةٌ بين أحجام TMX 1795 و4004  و8008  وعدد الترانزستورات المكوّنة كلّاً منهم

بعد هذا العرض، لمن يُنسب الفضل في اختراع المعالج الصّغريّ؟

الفضل في اختراع أوّل معالجٍ دقيقٍ يعتمد على تعريفِنا هذه الكلمةَ. فالبعض يعرّف المعالج الصّغريَّ بأنّه وحدة معالجةٍ مركزيّةٌ على رقاقةٍ واحدةٍ CPU-on-a-chip، والبعض الآخر يقول أنّ كلَّ ما يتطلّبه الأمرُ وحدةُ الحسابِ والمنطقِ على رقاقةٍ واحدةٍ ALU-on-a-chip.

- فوفقاً للتّعريف الأوّل، تُعَدّ رقاقة إنتل 4004 أوّل معالجٍ صغريٍّ لأنّها تحوي مكوّناتِ وحدة المعالجة المركزيّة كلَّها على رقاقةٍ واحدةٍ، أمّا TMX 1795 فيمثّل أوّل معالجٍ صغريٍّ  يعمل بنظام 8 بت، وأمّا معالج إنتل 8008 فيمثّل أوّل معالجٍ صغريٍّ ناجحٍ تجاريّاً يعمل بنظام 8 بت.

- وبحسب التّعريف الثّاني، يُنسب الفضل عادةً إلى Boysel لاختراعه رقاقة A19 عامَ 1968، إذ كانت هذه الرّقاقة ALU-on-a-chip، واحتوت على سجلّاتٍ، بينما كانت دارة التّحكّم بها خارجيّةً.

رقاقة Intel 4004 (يسار) إلى جانب رقاقة A19 (يمين)

لكن براءات الاختراع تقدّم لنا رؤيةً مختلفةً لاختراع المعالج الصغريّ. إذ أدركت شركة TI بسرعةٍ فائدةَ تسجيل براءات الاختراع لمعالجَيها TMX 1795 وTMS 0100، واستفادت من تلك البراءات بكثرةٍ في الدّعاوى القضائيّة واتّفاقيّات التّرخيص. فاستناداً إلى براءات الاختراع، يمكن أن نعدّ شركة TI مخترعةَ كلٍّ من المعالج الصّغريّ والمتحكّم الصّغريّ.

ولربمّا حريٌّ بنا غضّ النّظر عن مسألة تحديد أيٍّ من تلك المعالجات أوّلُ معالجٍ صغريٍّ، فالإنجاز ليس إنجازاً فرديّاً، وبالنّسبة للمهتمّين بالحوسبة الصّغريّة فإنّ هذا التّاريخ الغنيّ بأكمله هو ما يهمّ فعلاً.

--------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------------

ملحقات:

اذا كنت من المبرمجين، بامكانك استكشاف عمل معالجٍ صغريٍّ بسيطٍ بالضّغط على الرّابط التّالي: هنا

المصدر: هنا