الطب > مقالات طبية

رؤية العالم بالمقلوب، هل هي حالة طبية أم ادّعاء؟؟

تبلغ الصربية بوجانا Bojana Danilovic من العمر 28 عاماً، وتدّعي أنها ترى العالم بالمقلوب !!

تظهر الصور عند "بوجانا" من الأسفل الى الأعلى (عوضاً عن الحالة الطبيعية من الأعلى الى الأسفل)، وقد لوحظت هذه الحالة عندما بدأت بوجانا الكتابة في المدرسة لأنها كانت تكتب بشكل مختلفٍ عن باقي الأطفال، فكانت تقلب الورقة الفارغة وتكتب من أسفل الزاوية اليمنى حتى أعلى الزاوية اليسرى في آخر الورقة (عوضاً عن الكتابة من اليسار الى اليمين في أعلى الورقة ) وقد حاول الأساتذة وأصدقاؤها تصحيح كتابتها دون جدوى .

يقول الخبر أنّ أخصائيين من جامعة هارفارد ومعهد Massachusetts للتكنولوجيا وصفوا هذه الظاهرة بإسم spatial orientation phenomenon ، وتم تفسيرها بأنّ عيونها ترى كلّ شيء بشكل طبيعي لكنّ الدماغ يغيّر من اتجاه الصورة، مما يجعل حالة بوجانا فريدة جداً .

يقال أن "بوجانا" عاشت حياتها بالمقلوب ففي طفولتها بدأت بالزحف باتجاه الخلف عوضاً عن الأمام، وعندما بدأت بالمشي أصبحت تمشي الى الخلف مما جعل والدتها تبذل جهداً كبيراً كي تعلمها المشي الى الأمام كما نمشي نحن، وحين كبرت وأصبحت تدرس وتعمل أصبحت تثير ذهول زملائها لأنها تقلب لوحة المفاتيح وشاشة الحاسوب كي تستطيع أن تمارس عملها .

كلّ شيءٍ عند بوجانا مختلفٌ كي يلائم طريقة رؤيتها للعالم فهي تشاهد التلفاز بالمقلوب وتقرأ الصحف بالمقلوب وتستعمل جهازها المحمول بالمقلوب، وقد تطوّع بعض الشباب بتصميم برمجيات خاصة بها كي تستطيع استخدامها، والشيء الوحيد الذي لم تستطع بوجانا فعله هو الحصول على رخصة للقيادة .

طرح هذا الخبر أمام فريق الطب لتدقيقه والتحقّق من صحته قبل نشره على الصفحة، وبدأنا مهمّتنا بالبحث والاستقصاء.

كانت الملاحظة الأولى لدينا هي ضعف المصادر التي نشرت الخبر، حيث نرى الخبر بحذافيره مكرراً بلا أيّ تفاصيل إضافية في مواقع من قبل (عجائب العالم) و (حالات غريبة) وما شابهها، ولم يتم إيراد أيّ شرحٍ عن ماهيّة التجارب التي قام "الاختصاصيون" بها للتحقق من أنّ المشكلة في الدماغ وليست في العين، حتى أنّ أسماء اولئك العلماء غير مذكورة.

تكمن المشكلة الثانية في أنّ الزحف للخلف والمشي للخلف لا يتفقان مع الحالة الدماغية المطروحة (أعلى وأسفل)، كما أنّ المشي إلى الأمام ناتجٌ عن تشريح الأطراف السفلية بطريقة معينة بحيث تسمح للجسد بالإتجاه نحو مجال الرؤية (باتجاه الوجه)، فحتى المكفوفون يسيرون نحو الأمام!

بالبحث عن الحالة التي ادّعى الخبر أنّها تفسير حالة "بوجانا": وتمت تسميتها بظاهرة التوجه المكاني spatial orientation disorder، تبيّن أنّها حالة عصبية تسبّب عدم قدرة الانسان على المحافظة على وضع جسده عمودياً على الأرض، أو تحديد موقعه بالنسبة للمحيط، ولها تشعبات خاصة بالطيارين والغواصين حين انتقالهم من ظرف جوي محيطي إلى آخر مختلف، فيفقد الدماغ توازنه الناتج عن عمل الجهاز الحوفي والأذن الداخلية.

الملاحظة الرابعة: قدرة الدماغ على التأقلم للتنسيق بين المشهد الذي تراه العين وبين الواقع.

جميع عيوننا ترى بالمقلوب أولا ولكن أدمغتنا تتأقلم وتعدّل وضع الصورة ! وذلك وفق ظاهرة تدعى Perceptual adaptation التكيف الحسي، وفي تجربة شهيرة قام العالم George M. Stratton بارتداء نظارات تقلب الصورة رأسياً ولمدة 8 أيامٍ متتالية، ولاحظ أنه ابتداءً من اليوم الخامس لم يعد يواجه أيّ صعوبةٍ في التنسيق بين حركة يديه وبين المشهد الذي يراه أمامه حتى أنّه اعتاد عليه ولم يعد يجده غريباً، وحين نزع النظارات أصيب بالاضطراب مرة أخرى لأنّ دماغه كان قد تأقلم على الرؤية بالمقلوب.

الملاحظة الخامسة: لماذا فقط التلفاز والجريدة والكمبيوتر؟ بما أن العالم كله بالمقلوب أمامها منذ كانت طفلة (الاشخاص والاشجار والأبنية والاعلانات في الشارع وغيرها)، لماذا كان عليها ان تقلب جزءاً صغيراً فقط من العناصر المشاهدة رغم اضطراها للتعامل اليوميّ مع كل ما تبقى بالمقلوب؟

وهكذا سنترك الأمر لكم أصدقائنا القراء، هل برأيكم أنّ هذه الحالة الطبية موجودة حقاً؟ أم أنها مجرّد ادعاء بغرض الشهرة؟ رغم نشرها بشكلٍ موسّعٍ جداً على شبكة الانترنت ومن قبل جرائد عالمية هامة مثل الـ Daily Mail UK، ولكنّ ما توصلنا له بفضل القليل من الشك، والكثير من الثقة بالعلم الحقيقي المثبت، هو أنّ هذه الحالة قد لا تكون حقيقية أو في أحسن الأحوال قد يكون تمّ نشر الخبر مع كثير من الإضافات والمبالغة.

نتمنى أن يكون تحقيقنا العلميّ الصغير قد ساعدنا جميعاً في ترسيخ ضرورة البحث والتفكير النقدي والتشكيك في كلّ ما يعرض علينا، كي لا نسمح للحقائق المزيفة بالانتشار والتصديق.. والآن، ما رأيكم أنتم؟

المصادر:

هنا

هنا

هنا