الفيزياء والفلك > فيزياء

هل يمكن لميكانيكِ الكمّ أن يؤثر على آليّة نقل المعلومات في أدمغتنا؟

بمجرَّدِ أن نذكرَ عبارة "الوعي الكمي" سنجعلُ معظمَ  الفيزيائيِّين ينكمشون في مقاعدِهم، وكأنَّما العبارةُ  تستحضرُ شبحًا! ولكِنْ إذا ثبُتَت صحّةُ فرضيةٍ جديدة فإنَّ الآثار الكمومية قد تؤدّي دوراً واقعيّاً في الإدراك البشري؛ إذ تفسّرُ هذه النظريّة الجديدة كيفَ يُمكِنُ لحالاتٍ كموميَّةٍ ضعيفةٍ أن توجَد لساعات أو حتى لأيَّام في أدمغتنا! ويُتوَقَّعُ أن تُثبِت التَّجارب هذه الفكرةَ أو قد تدحضها قريباً.

في عام ٢٠١٥؛ نشرَ العالم الفيزيائي ماتّيو فيشر(Matthew Fisher)  في مجلّة  Annals of Physics ورقةً بحثيّةً عن

“الوعي الكمّي” أو “Quantum cognition” اقترح فيها أنَّ عزمَ اللف الذاتي (spin) لنواة ذرّة الفوسفور يمكن أن يكون بمثابة Qubits “كوبيتّات” ( أي وحدة المعلومات الكمّية، وهو المقابلُ الكموميُّ للبتّ الكلاسيكي) بدائيةٍ في الدماغ من شأنها أن تمكّن الدماغَ من العملِ كحاسوب كمومي. (الحاسوب الكمومي يعملُ أسرَعَ بكثير من حواسيبنا الحاليّة ويُمكِنُه أن يجري عمليَّاتٍ حسابية معقّدة جداً وبسرعةٍ فائقة، وكذلك  يمكنه  اختبارُ نظريّات فيزياء الكمّ  بالاستفادة من الخواصِّ الكميّة للجسيماتِ لمعالجةِ البيانات).

 

لِنعودَ الآن لنظريّة فيشر الَّتي واجهت كثيراً من الانتقادات، بل وُصِفت من بعض الفيزيائين بأنّها عديمة الفائدة و مضيعة للوقت!

وذلك لأنَّهم واجهوا هذا النوع من الفرضيّات من قبل؛ ففي عام ١٩٨٩ اقترح روجر بينورس أن هياكل البروتين الغامضة تلعب دوراً في الوعي البشري، وذلك من خلال استغلال الآثار الكموميّة. (يعتقد القليل من الباحثين أنَّ هذا النوع من الفرضيات قد يكون معقولا) .

ولكنَّ العقبةَ التي تواجه نظرية "فيشر" وتجعلُ العلماء يرفضون هذا النوع من الفرضيات هي ظاهرة تٌسمّى decoherence.

 

ما هو ال decoherence؟

أولاً سنتعرف على ما يسمّى “الترابط الكمّي” أو Quantum coherence:

في ميكانيك الكمّ؛  يمكن للجسيمات ما دون الذريّة كالإلكترونات أن  تتصرّفَ وكأنَّها موجاتٌ! تُوصَف هذه الموجاتُ عن طريق دالّةٍ موجيّةٍ “wave function” ، وهذه الموجات يمكن أن تنقسم، ومن ثمَّ تتداخلُ بعضها مع بعضٍ مشكِّلةً حالةً كميّة واحدة، كما في حالة قطة شرودنجر (حيّة وميتة في الوقت ذاته داخل الصندوق)، وطالما استمرّت هذه الحالة المتراكبة، يقال إن النظام مترابط“coherent”.

إنَّ الترابط الكمّي هو أساس الحوسبة الكمومية الّتي يكون فيها البت الكموميّ هو عبارة عن تراكب للحالتين "0" و "1"، مما يؤدي إلى تسريع الخوارزميات الحاسوبيّة الكلاسيكية المختلفة، وعندما ينعدم الترابط بين الحالات الكميّة المتراكبة فإننا نفقد كل ميّزاتها المفيدة. لذا  تَخيّلْ أنَّ فوتوناً واحداً سيكون كافياً لجعل النظام بأكمله decoherent غير مترابط ،أي تدمير التشابك الكمّي ومسح الخصائص الكميّة للنظام.

والآن بعد تعرٌفِنا على مفهومِ الـ decoherence يُمكننا أن نفهمَ الآن لماذا يصعب علينا القيام بالمعالجة الكموميّة في المختبرات (بالتقنيّات الموجودة حالياً)، فكيف لنا أن نجريها في بيئةٍ فوضويّة ومعقَّدة كالدماغ البشريّ؟

هذا ما يجعل اختبار نظريّات كنظريّة "فيشر" ضرباً من الخيال في وقتنا الحاضر.

 

الآن فلْنَرَ سببَ طرح "فيشر" هذا  الاقتراح؛لعلّنا نفهمُ ما الذي حاول "فيشر"  أن يفعله ؟

عانى الفيزيائيّ "ماثيو فيشر" ممَّا يُسمَّى بالاضطراب الاكتئابيّ، إذ كانَ يشعرُ بصداعٍ شديدٍ في رأسه لمدّةِ سنتَين، ولم تتمكّنِ الفحوصاتُ الطبّية من اكتشاف سببِ هذا الصداع؛ إلى أن وصفَ له طبيبه  -أخيراً- حبوباً مضادّة للاكتئاب، وممّا يدعو إلى الغرابة أنَّ حالته بدأت تتحسَّن بعد حوالي تسعة أشهر من تناوله الحبوب المضادّة للاكتئاب، ولكنَّه لم يستطعْ فهمَ كيفيّة تأثيرها الإيجابي على حالته، وما أدهشَهُ آنذاك أنَّ علماءَ الأعصاب كانوا  يدركون القليل عن آلية تلكَ الحبوب، ولكنْ نظراً لخبرة "فيشر" بميكانيك الكمّ وجدَ نفسه يربطه بالدماغ البشري .

 

 

بماذا فكّر" فيشر"؟

 

بما أنَّ جميعَ الأدوية النفسيّة هي عبارةٌ عن جزيئات كيميائيّة معقّدة، قام "فيشر" بالتّركيز على أبسط أنواع الجزيئات المُستخدمة في هذه الأدوية وأسهلِها للدراسة؛ ألا وهو الليثيوم “Lithium”ـ إذ يحتوي على ذرّة واحدة ـ، وأرادَ "فيشر" المقارنةَ بين lithium-7 و lithium-6 ، ولحُسنِ حظّهِ وجدَ في المراجع العلميّة أنَّ المقارنة قد أُجريت من قبل، إذ قارنَ علماءُ من جامعة كورنيل تأثيرَ نظيريّ الليثيوم ٧ و ٦ على سلوك الفئران، وكانت التجربة كالآتي: قامَ العلماء بفصل فئران حوامل إلى ثلاث مجموعات: أُعطيَتِ المجموعةُ الأولى lithium-7، وأُعطيَت المجموعة الثانية النظير lithium-6، ولم تُعطَ الثالثةُ شيئاً لمقارنةِ سلوكِها مع سلوك المجموعتين الأُخرَيَين.

وعندما ولِدت الفئرانُ لاحظَ العلماءُ أنَّ الفئرانَ اللواتي حصلنَ على lithium-6  أظهرنَ سلوكيّات أقوى بكثير مقارنةً بالمجموعات الأُخرى، كالرِّعاية  وبناء الأعشاش.

وقد قادت هذه التجربةُ "فيشر" إلى الاعتقاد بأنَّ السّبين" spin" في نواة الذرّةِ  قد يؤثر على المدّة التي تبقى فيها الذرّة مترابطة Coherent؛ وبما أنّه  كلّما كان السبين صغيراً قلَّ تآثُّرُ النَّواة مع الحقل الكهربائي والمغناطيسي، فإنَّ هذا يعني أنّ الترابطَ سيكونُ لمدّة أطول.

وبما أن lithium-6 و lithium-7  لديهما عددٌ مختلف من النيوترونات، فهذا يقتضي اختلاف السبين (spin)، والنتيجة هي أنَّ lithium-6  يبقى متشابكاً مدّة أطول من نظيره lithium-7!

 

كيفيّة حماية الكمّ ؟

إنَّ الانتقالَ من مرحلة الفرضيّة المثيرة للاهتمام إلى إثباتها استنادًا إلى طريقةِ معالجة المعلومات الكميّة في الدماغ يمثِّلُ تحدّياً صعباً؛ فلو كان فيشر صائباً فإن الدماغ يحتاج إلى بعض الآليات لتخزين المعلومات الكموميّة في كيوبتّاتٍ مترابطة لفترة طويلة نسبيّاً، و يجب أن يكون هناك آلية لتشابك عدّة كوبيتّات، وكذلك يجبُ أن يكون هناك أيضاً بعض الوسائل لنقل المعلومات الكموميّة المخزَّنة في جميع أنحاء الدماغ مع الحفاظ على ترابطها.

يعتقدُ "فيشر" أنَّ المُرشّحَ الأقوى لمَهمَّة تخزين الكيوبتات الكموميّة في الدماغ هو ذرّات الفوسفور، إذ تمتلك قيمة سبين صغيرة لذلك يُمكنها أن تخُزّن المعلومات الكموميّة في الدماغ، ومن الممكن أن تبقى مترابطة مدّة أطول، ولكنّها لا تستطيع لوحدها جعلَ الكوبيتّات متماسكة زمنًا كافيًا، لذلك يعتقد "فيشر" أنَّ ارتباطَ الفوسفور مع أيونات الكالسيوم لِتشكّيل ما يُسمّى  بال “clusters”، يمكن أن يُمدِّدَ فترةَ الترابط زمنًا أطول.

 

سنرى كيف يمكن توزيع التشابك على مسافات طويلة نسبياً في الدماغ :

 

تبدأ العمليّة بِمُركَّب كيميائي يُسمّى بيروفوسفات؛ الذي  يتكوّن من جزيئتَي فوسفات مرتبطتين معاً ـ كلٍّ منها تتألّف من ذرّة

فوسفور واحدة  محاطةٍ بذرّاتِ من الأوكسجين الذي لها سبين يساوي الصّفر.

ويؤدّي التفاعلُ بين سبين ذرّتي الفوسفات إلى تشابُكِهُما، وبعد ذلك تقوم الأنزيمات ـ أي  مُسرِّعاتُ التفاعلات الكيميائية ـ بِفصل الفوسفاتَين إلى أيّونَين من الفوسفات، والتي تبقى متشابكة حتّى لو ابتعدت عن بعضها. ويؤدِّي اندماجُ هذه الأيّونات مع أيّونات الكالسيوم وذرّات الأكسجين ذوات السبين صفر  بِتكوُّنِ جُزيئات بوسنر، وهذه الجُزيئات لها سبين مساوٍ للنصف ممّا يؤدي بدوره الى الحفاظ على حالة الترابط Coherent مُدّة قد تتراوح بين أيامٍ الى أسابيع، ممَّا يُفسِحُ المجالَ لنقل حالات التشابك الكمّي مسافاتٍ أطول في  الدماغ، وهذا  يؤثر على العملِ العصبي في الدماغ كتحرير الناقلات العصبية، وتحفيز المشابك العصبيّة؛ أي أشبه بعمل التأثير الشبحي في الدماغ!

 

اختبار النظريّة :

 

الاختبارُ التجريبيُّ هو بالضبط ما يُحاول فيشر القيام به الآن، ولقد أمضى وقتاً في جامعة ستانفورد - مع الباحثين هناك -  لِتكرار دراسة عام 1986 مع الفئران الحوامل، واعترف بأن النتائج الأولية كانت مُخيَّبةً للآمال، إذ إنّ البيانات لم تقدّمِ الكثيرَ من المعلومات، ولكنّهٌ يعتقد أنَّ تكرار التجربة مع بروتوكول أقرب إلى تجربة 1986 الأصلية، قد يرسّخُ قطعيّة النتائج على نحو أكبر.

 

وقد تقدّم "فيشر" بطلب للحصول على تمويل لإجراء المزيد من التجارب المتعمّقة في الكيمياء الكمية، وقام بجمع مجموعة صغيرة من العلماء من مختلف التخصصات في جامعة أوسب وجامعة كاليفورنيا كمتعاوِنين، وأوّلاً وقبلَ كلِّ شيء؛ قال أنَّه يودّ التأكدَ من أنّ الفوسفات والكالسيوم يشكّلان جزيئاتِ بوسنر مُستقرّةً، وعمَّا إذا الspin لنواة ذرّة الفوسفور في هذه الجزيئات يستطيع التشابك لفترات طويلة بما فيه الكفاية من الزمن.

 

وتتطلّب العديدُ من الجوانب الأٌخرى لفرضيّة "فيشر" فحصاً أعمقَ، والأهمُّ من ذلك، ماذا لو أثبَتَت كل تلك التجارب في نهاية المطاف أنَّ فرضيّته خاطئة؟ سيكون قد حان الوقت للتخليّ عن مفهوم الإدراك الكمومي تماماً، ويقول فيشر "أعتقد أنه إذا لم يُستَخدم الـ spin  لنواة ذرّة الفوسفور في عمليّة المعالجة الكمية فهذا يعني أنّ ميكانيك الكم ليس فعّالا بما فيه الكفاية في عمليّة الإدراك".

 

 المصدر: هنا