الفيزياء والفلك > فيزياء

تجربة قطّة شرودنجر الفيزيائية الشهيرة … لغير المختصين

هل قِطّة شرُودِنجَر حَيَّةٌ أَم مَيِّتة؟

لِعَلَّ أهمّ قِطَّة في تَاريخِ الفِيزيِاء هي - دُون شَكٍّ - قِطَّة شرُودِنجَر. قَد تَكوُن سَمِعتَ عنها من قَبلُ ولَكن لا تَعرٍفُ سبب أهَميّتها؟

إذاً لِنَتَعَرّف على سببِ شهرةِ  هذهِ القطة.

أُودُّ أن أقَولَ بدايةً إنّ التّجرُبةَ الّتي أجرَاها شرودِنجر هي تجربةٌ خَياليِّةٌ، وليسَ لها أيّةُ صلةٍ بالواقعِ. هدفُ هذهِ التّجربةِ هو إظهارُ التّناقُضِ بينَ فيزياءِ نيوتُن وميكانِيكِ الكَم .

إذا كنتَ تظنُّ أنَّ شرُودِنجَر هو مُعذِبُ قِطَطٍ فأنتَ خاطئٌ، فشرُودِنجَر هو أحد مؤسّسي ميكانيكَ الكمّ. وإن كنتَ لا تعرفُ ميكانيكَ الكمِّ فسأوُضِحُ لك بِبعض الأسطرِ لمحةً سريعةً عنها.

ميكانيك الكمّ هي مجالُ الفيزياءِ الّذي يحاولُ فهمَ عالَمِ الجسيماتِ دونَ الذّرَّيّة؛ أي الجُسيماتِ الأصغرِ بكثيرٍ من الذّرّةِ.

أيبدو سهلاً؟

لكنّه ليس كذلكَ، ففي ميكانيكِ الكمِّ يبدو كلُّ شئٍ عشوائياً وغيرَ منطقيٍّ لعقوُلنا.

ظنَّ العلماءُ في نهايةِ القرنِ التّاسعِ عشر أنَّهم اكتَشَفوُا كلَّ شيءٍ عن الفيزياءِ وفهموه، لكن بعد عدّةِ عقودٍ منَ الزّمنِ فاجأهُم أَينِشتَايِن وفيزيائيّونَ مختّصّونَ بِميكَانيكِ الكمّ؛ كنيلز بوهر وفيرنر هايزِنبِرغ وإروِين شرودِنجَر، وزَعزَعوُا فهمَهم لِعالمِ الفيزياء.

كانت عشرينات القرنِ الماضي وقتاً مربكاً جدّاً للعُلماء، فعلمُ الذّرَّة وما دُونَها ترك لهمُ اِنطِبَاعاً سيّئاً، ولا يمكنُ أن نلومَهُم، فميكانيكُ الكمّ محيرةٌ جدّاً.

كلُّ ما أريدهُ منكُم الآن هو إفساحُ المجالِ لمخيِّلَتكُم، ووضعُ المنطقِ جانباً بالسّباحةِ بعيداً والتحليقِ عالياً في نفسِ الوقتِ.

مَبدأ التّراكُب:

هو واحدٌ منَ المبادئِ المحيّرةِ للعقلِ، إذ ينصُّ على إمكانيّةِ وجودِ جُسَيمٍ كموميٍّ في عدّةِ حالاتٍ في نفسِ الوقتِ، ولا نستطيعُ معرفةَ الحالةِ الّتي هو فيها ما لم نرصده.

تخيِّل معي أنّك تسبحُ في البحرِ وتظنُ بوجودِ إمّا حوتٍ أو سمك قرشٍ يُطاردَك، فكيف ستعرفُ ما الّذي يلاحقُكَ؟

ستنظرُ للخلفِ طبعاً وتهولُ رعباً عندما ترى الحوتَ أو القرشَ يريدُ افتراسَك. لكن حسبَ مبدأ التّراكُب، لو لم تنظر إلى الخلفِ فالحيوانُ الّذي يُطاردكَ هو حوتٌ وقرشٌ في الوقتِ ذاته.

هل تخيِّلتَ الموقف؟ إذا لم تستطع تخيّلهُ فحاول مرّةً تلو آُخرى حتّى تفهمَ الفكرة، فلو استطعتَ تخيّلهُ فمعضِلةُ القِطَّة ستبدو سهلةً عليك.

لنعدِ الآن إلى الفيزياء. يقودُنا مبدأ التّراكبِ الّذي شرحتُهُ للتَّو نحو القاعدةِ الثّانيةِ في ميكانيكِ الكمّ، والّتي تنصُّ على التّالي: عندما نقيسُ خاصيِّةً ما أو نرصدها، فيتوجَّبُ على الجُسيمِ الكموميِّ أن يختارَ واحدةً من الحالاتِ العديدةِ المتاحةِ لهُ لنتمكّن من رصده. محيِّرٌ أليسَ كذلك؟

نصيحتي لك الآن هي النّظر عبرَ نافذةِ غرفتكَ واستنشاقُ الهواءِ لعشرينِ ثانيةٍ، ومن ثمّ تابعِ القراءة.

تخيَّل الآن أنّ لديكَ بابَانِ أمامكَ، ويتوجَّب عليكَ الاختيارُ بينهما. بإمكانكَ في أيّ وقتٍ أن تعبرَ فقط في واحدٍ من البابَيِن، وهنا أنت تتصرَّفُ كجُسيمٍ فيزيائيّ. تخيَّلِ الآنَ أنّ الماءَ يتدفَّقُ عبرَ البابَيِن؛ أي أنّ أمواج الماءِ ستعبرُ البابانِ في ذاتِ الوقت. يتصرّفُ الجسيمُ دونَ الذّريّ تماماً كموجةِ الماءِ الّتي تعبرُ البابَيِن في نفسِ الوقت، لكن في اللحظةِ التي ترصدِ بها هذه الجسيماتِ دونَ الذّريّة ستَتَوقفُ هذهِ الجُسيماتِ عن التّصرّفِ كالماءِ، وستعودُ لتتصرَّفَ مرَّةً آُخرى مثلكَ أنت؛ أي كجسيماتٍ، وذلك بعبورها أحدَ البابينِ فقط.

إذا وضعتَ ذرَّتانِ مُتمَاثِلَتانِ تماماً في علبتينٍ متماثلتينِ تماماً وبنفس الظّروفِ المحيطةِ بهما، فسترى نفسَ النّتيجة لو فتحتَ العلبتان.

إذا ظننتَ أن هذا الاعتقادَ صحيحٌ فأنتَ خاطِئٌ، ففي حالةِ الصّناديقِ المغلقةِ تكونُ الذّرّاتُ هي نفسها في الصّندوقَين، ولكن عندَ الرّصدِ ستختلفُ النّتيجة. يبدو كالسّحرِ أليسَ كذلك؟

حيّرت هَذهِ الميّزةُ لمبَدأ التّراكُب العلماءَ في عشريناتِ القرنِ الماضي، وما زالت محيرةً للبعضِ لوقتنا هذا، لكنّ شرودِنجَر أتى بالفكرةِ العبقريَّةِ الّتي حلتِ اللغزَ للكثيرِ منَ العلماء.

أميتةٌ القطّة أم حيَّة؟

 

اقترحَ شرودنجر تجربةً فكرِّيةً، إذ تخيّل قطَّةً محصورةً في صندوقٍ، ومعها زجاجةٌ منَ السمِّ موضوعةٌ تحتَ مطرقةٍ مربوطةٍ بعدَّادِ غايِغَر، ومعها بعضُ الموادًّ المشعَّةِ الّتي لها قابليّةُ ٥٠٪ للتّفكّك (يُستخدمُ عدَّادُ غايِغَر للكشفِ عن النّشاطِ الإشعاعيِّ). إذا تفكّكتِ المادَّةُ المُشعَّةُ سيسبّبُ عدَّادُ غايِغَر هبوطَ المطرقةِ على زجاجةِ السمِّ، وهذا يعني مَقتلَ القِطَّةِ المسكينةِ مسمومةً. أمّا إذا لم تتفكّكِ المادّةُ المشعّةُ فستبقى القِطَّةُ على قيد الحياة.

لكنّ ليس لدى الرّاصِدِ خارجَ الصُّندوقِ أيّةُ فكرةٍ عن النّتيجة؛ فهو لايرى ما يحدثُ داخلَ الصّندوق. وفقاً لمبدأ التّراكُبِ فإنّ المادَّةَ المشعَّةَ هي مُتفكّكةٌ وغيرُ مُتفكّكةٍ في نفسِ الوقت، ولحظةَ رصدِ داخلِ الصّندوقِ سنعرفُ ما إذا كانتِ المادَّةُ مُتفكّكةٌ أم لا، ولأنّ حياةَ القِطّةِ مرتبطةٌ بالجُسيماتِ دونَ الذّريّةِ في المادَّةِ المُشّعّةِ فسنقول إنّ القطّةَ - قبل أن يرصدها المراقبُ الخارجيُّ - حيّةً وميتةً  في نفسِ الوقت.

تكمنُ المُشكلةُ بأنَّ القِطَّةَ لا يُمكنُ أن تكونَ حيّةً وميتةً في نفسِ الوقت، ويجبُ أن تكونَ في إحدى الحالتين. أثار شرودنجر بهذهِ التّجربةِ الفكريّةِ التّناقضَ بين فيزياءِ الكمِّ وفيزياء الجُسيمات الضخمة (فيزياء نيوتن).

يبدو أنّ من السّهلِ علينا أن نفترضَ أنّ بإمكانِ الجُسيماتِ دونَ الذّريّة أن تكونَ جُسيماً وموجةً بآنٍ معاً، وأن يكون مفكّكاً وغير مُفكّكٍ بآنٍ معاً. وعلى أيّةِ حالٍ، إذا قارنتَ الكمّ بعالمِ نيوتن الّذي نعيش فيه، فستظهرُ التّناقُضات.

إذا شعرتَ بالدّوارِ بسببِ هذه الفكرةِ فلا تقلق، فلستَ الوحيد!

لم يستطعِ شروُدنجَر نفسهُ فهمَ مبدأ التّراكُب، وطوَّر هذهِ التّجربةَ فقط لكي يُثبتَ فكرتَهُ على طبيعَتِهَا المنافيةِ للعقل.

 

المصدر: 

هنا